عكا؛ هذه المدينة الفلسطينية التي بناها الكنعانيون والتي يعنى اسمها الرمل الحارّ، فتحها الصحابيان المجاهدان عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما في عهد الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 16 هـ، وأنشأ فيها الصحابي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما داراً لصناعة السفن في سنة 20 هـ، ومنها انطلقت أول غزوة لجزيرة قبرص في العام 28 هـ
ونظراً لموقعها الاستراتيجي الهام المُطِلِّ على البحر الأبيض المتوسط وعلى الطريق بين مصر والشام، فقد شهدت مدينة عكا كثيراً من محاولات الحصار على مر التاريخ الإسلامي، ومن أشهرها:
1- حصار عام 1104 بعد الحملة الصليبية الأولى ووقع في شهر أيار، وكان له دور بارز في توطيد مملكة بيت المقدس الصليبية التي تأسست قبل سنوات قليلة. فقد أجبر الملك بالدوين الأول هذه المدينة الساحلية على الاستسلام بعد حصار استمر عشرين يوماً فقط. وعلى الرغم من تأكيده للمدافعين وللسكان الراغبين في مغادرتها أنهم سيكونون آمنين عند رحيلهم مع أخذ ممتلكاتهم معهم، إلا أن حوالي 4000 منهم تعرضوا للذبح أثناء مغادرتهم المدينة.
2- الحصار الذي قام به الصليبيون أثناء حملتهم الثالثة، نُفِّذَ الحصار بقيادة ريتشارد الأول (قلب الأسد) ملك إنجلترا وفيليب الثاني أغسطس ملك فرنسا على الحامية الأيوبية في عكا منذ 28/8/1189م حتى سقوطها بيدهم في 12/6/1191م بعد استسلام حاميتها. كان هدف تلك الحملة وهذا الحصار استرجاع القدس من يد صلاح الدين، أمر ريتشارد باعدام جميع أفراد الحامية غدراً بعد أن منحهم الأمان وعددهم 6000 جندي مسلم.
3- حصار عام 1263 الذي نفذه الظاهر بيبرس في 8 رمضان عام 665 هـ بعد علمه بأن مجموعات صليبية تنطلق من عكا وتُغير ليلاً على المسلمين وتتوارى مرتدية ثيابهم، قاد السلطان بيبرس سَرِيّة خاصة استطاعت اقتناصهم، ولما حاول الفرنج المقيمون في عكا ضرب المسلمين أمر بالقضاء على حاميتها إذا لم يمتثلوا للولاء والنظام. وكان الهدف من هذا الحصار تحرير عكا ومعاقبة حاميتها على قطع الطريق والإغارة على المسلمين.
4- حصار عام 1291م، أرسل الأشرف خليل بن قلاوون الأمر لدمشق في 1/3/690هـ لتجهيز آلات الحصار وأعلن الجهاد لتحرير عكا بسبب قيام الفرنجة بقتل تجارها المسلمين وأخذ أموالهم، خرجت العساكر من طرابلس ومن كل حَدَبٍ وصوْب، وخرج الأشرف من مصر بعساكره فالْتَقَتْ الجيوش عند عكا، في يوم الخميس 4/4/690هـ حاصروها وهاجموها بالمجانيق، وكان تحريرها في يوم الجمعة 7/5/690هـ، وارتفعت رايات التوحيد على أسوارها مع شروق الشمس، هرب الفرنجة وقتل كثير منهم وغنم المسلمون أمتعتهم وبضائعهم، وأمر السلطان بتخريبها لئلاَّ يعودوا لها، فكان تحريرها نهار جمعة كما كان احتلالها يوم جمعة. وصلت البشارة إلى دمشق ففرح المسلمون بنصر الله.
5- حصار عام 1799 من قبل القوات الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، وقصته أن نابليون بونابارت قاد حملة على مصر وبلاد الشام في أول حزيران 1798 ساعياً إلى عرقلة خطوط التجارة البريطانية مع الهند، وكان يراهن على تأليب أهل الشام للثورة ضد الدولة العثمانية بهدف مساعدته في إسقاطها والقضاء عليها نهائياً،
خرج نابليون من القاهرة في 20/2/1799م على رأس حملة من 13 ألف جندي متجهاً إلى الشام، وعند وصوله العريش احتل قلعتها. ثم دخل غزة واحتل خان يونس، ثم اتجه للرملة ووصل يافا في 7/3 فحاصرها ودخلها عنوة بعد مقاومة شديدة، فطلب أهلها منه الأمان ومعاملتهم كأسرى حرب مقابل إلقائهم السلاح فأمَّنهم، لكنه غدر بحاميتها فقتلهم جميعاً رمياً بالرصاص وعددهم 4000 مقاتل، وبرر جريمته بعجزه عن إطعامهم وحراستهم، وكان يخشر انضمامهم لحامية عكا، وهذا دَيْدَنُ الكفار مع المؤمنين في كل عصر وزمان، إذا تمكنوا منهم لم يقيموا وزناً لعهد أو عقد أو وعد أو لأية قيمة أخلاقية أو إنسانية، قال تعالى فيهم {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} براءة 8، ومعنى لا يرقبون أي لا يحترمون، ومعنى إلاًّ أي صلة وقرابة، ومعنى ذمة أي عهد.
ثارت حمية السلطان العثماني وقتها سليم الثالث فبكى على الدماء الزكية التي أراقها العدو في أرض الإسلام، فدعا إلى الجهاد لرفع هذا الكرب عن بلاد الإسلام، فكلف والي عكا أحمد باشا المشهور بالجزار بقيادة عملية الدفاع عن مدينته، وفي ذات الوقت كلف الصدر الأعظم يوسف باشا بالمهمة، فخرج من إسطنبول على رأس 120 ألف فارس، هذا على الرغم من الأوضاع الصعبة للدولة العثمانية وبالأخص جيشها المنهك من الحروب مع روسيا والتي كان آخرها قبل 4 سنوات وظهور بعض القلاقل فيها.
أما أسوار عكا المنيعة فكان قد بناها واليها العثماني ظاهر العمر الزيداني خلال عامي 1750–1751م، وهي من أضخم وأعظم الأسوار التاريخية؛ إذ إنها حمت المدينة من هجمات الغزاة والحملات العسكرية التي حاولت احتلالها، وأما عن مكوّناتها فالسور الداخلي واسع العرض ويحيط بالمدينة القديمة بطول 2835 متراً، ويحيط بهذا السور خندق واسع العرض شديد العمق، ويمتد السور الخارجي موازياً للسور الداخلي بحيث يكون الخندق بينهما، وفي أثناء الحروب كانوا يفتحون مياه البحر لتملأ الخندق عن آخره فلا يستطيع الغزاة تجاوزه.
ساعد أسطول إنجليزي تابع للبحرية الملكية في تعزيز الدفاعات العثمانية في عكا فأمد المدينة بمدافع إضافية يحرسها عدد من البحارة ومشاة البحرية الإنجليز؛ حيث كان هذا الأسطول قد استولى سابقاً على المدافع الفرنسية المرسلة من مصر على متن السفن الفرنسية لقصف الطريق الساحلي ليافا. فنقلت إلى حامية عكا ونصبت على أسوارها واستخدمت ضد الجيش الفرنسي أثناء الحصار.
وفور سماعه خبر الغزو الفرنسي لمصر وسقوط مدينة الإسكندرية في أيديهم شرع أحمد باشا الجزار بتحصين وصيانة أسوار عكا المنيعة وبإعدادها والرفع من جاهزيّتها تحسُّباً لأن تكون هي المحطة القادمة لنابليون، وتم نصب 250 مدفعاً على أسوارها، وقام أيضاً بحشد الجنود فيها وبتكديس العتاد والمؤن المنوّعة والمياه للسكان والمقاتلين، وبنى كذلك مرابض للمدفعية، وهذا مصداق قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ…} الأنفال 60، وبتكليف من السلطان سليم الثالث قاد أحمد باشا بنفسه الدفاع البري عن المدينة على رأس 30 ألفاً من أهل فلسطين ولبنان وسوريا.
وكان ما توقعه أحمد باشا، فبعد أن احتل مصر وأخضعها اتجه نابليون إلى فلسطين فارتكب فيها مذابح كثيرة، ثم اتجه إلى عكا شمالاً وعينه ترنو إلى إخضاع الشام عبر بوابة عكا، وكان يعتقد جازماً أنها لن تصمد أكثر من يومين أو أسبوعين في أبعد التقديرات كما قال هو لأحد ضُبّاطه، أرسل نابليون إلى الجزار رسالة تنطوي على الغرور والصلف، فممّا جاء فيها [إنني الآن أمام قلاع عكا ولن يُكسبني قتلُ شخصٍ هَرِمٍ مثلك شيئاً، لذا فإني لا أرغب بالدخول معكم في معركة، كن صديقاً وسَلِّم المدينة دون إراقة دماء] فأجابه الجزار بردٍّ ينطوي على العزة والكرامة، وكان مما جاء فيه [الحمد لله أننا قادرون على حمل السلاح وعلى الدفاع عن أنفسنا، إنني أنوي قضاء الأيام القليلة الباقية من عمري في الجهاد ضد الكفار] فقال نابليون [يبدو أن هذا العجوز الهرم سيكون سبباً في ضياع بضعة أيام منا، ولكن لا بأس سندخل المدينة ونلقنه درساً] وما علم نابليون أن عكا وواليها وأهلها الموحدين هم من سيلقَّنونه الدرس القاسي.
وفي 28/2 سار الجيش الفرنسي بقيادة كليبر قادماً من مصر نحو عكا مارّاً بأسدود ثم بقرية يَبْنَا والرملة ويافا التي احتلها بعد قتال شديد، ثم احتل حيفا في 17/3 التي لم تتمكن من المقاومة نظرا لنقل حاميتها ومدافعها إلى عكا. ثم انضم كليبر بجيشه المكون من 12 ألف جندي إلى نابليون وقواته لتتشكل قوة مشتركة ضخمة واتجهوا إلى عكا ليُخْضِعُوا واليها الجزار. وصل جيش الاحتلال الفرنسي في 19/3 لمشارف عكا، وفرض الحصار حول المدينة وباشر بضربها بالمدفعية، وتركزت قواته على هضبة تل الفخار شرق عكا (وتسمى أيضا بِـ تلة نابليون).
أخذ الجيش الفرنسي مواقعه حول أسوار عكا، وفرض عليها حصاراً مشدداً نفَّذه سلاح المشاة، وشرع الجنود بإطلاق النيران ومحاولة تسلق الأسوار، فواجهتهم نيران مدافع عكا الكثيفة التي أوقعت فيهم كثيراً من القتلى والجرحى، استطاعت القوات الفرنسية إحداث بعض الفجوات في السور الخارجي فتمكّنت من اختراقه والوصول إلى السور الداخلي، وهناك كانت بانتظارها مصيدة أبادت وجرحت كثيراً من الجنود.
وخلال فترة الحصار سيطر الفرنسيون على منطقة الجليل الغربي من حيفا جنوبا وحتى مدينة صور شمالاً، ومن البحر حتى شفا عمرو شرقاً، وبعد معركة جبل تابور في 16/4 سيطر الفرنسيون على بقية مناطق الجليل ومرج ابن عامر، واستغل نابليون دير الرهبان الكرمليين على جبل الكرمل كمستشفى، وحَوَّلَ قلعة سرايا ظاهر العمر في شفا عمرو مستشفىً عسكرياً لمداواة ومعالجة الجرحى والمرضى الفرنسيين.
حوصرت عكا من كافة الجهات البرية وقصفت بالمدفعية قصفاً مكثفاً، ولكن في النهاية فشل نابليون في اختراق أسوارها على الرغم من سبع محاولات كلها باءت بالفشل، فأمر بتشديد الحصار والحيلولة دون وصول أية إمدادات للجزار. ونجح خلال الحصار بإلحاق هزيمة بقوات عثمانية كانت قادمة من دمشق لمساعدة الجزار بمعركة قرب طبريا فاحتلها واحتل الناصرة وصفد. وكان للعثمانيين دور عظيم في إفشال حملة نابليون، فبالإضافة إلى جيش الصدر الأعظم ذكرت بعض المصادر التاريخية أن أحد أسباب انسحاب نابليون من حصار عكا علمه بقرب وصول الأسطول العثماني العظيم إلى مصر بقيادة مصطفى باشا كوسا لحماية عكا ولتحرير البلاد التي سيطر عليها نابليون قبل وصوله أسوارها. ولا ننسى بطولة الجزار وأهل عكا المستميتة التي كان لها دور كبير في التصدي للقوات الفرنسية الغازية.
وبعد فشل نابليون وجيشه باختراق أسوار عكا المنيعة، وبسبب قلة العتاد والمؤن والخسائر البشرية والمادية التي تكبدها جيشه، وبسبب تفشي الأمراض والطاعون بين جنوده لكثرة القتلى وتراكم الجثث، وبسبب قتل عدد من مشاهير قادته الأقوياء، اضطر نابليون للإقرار بالهزيمة تحت ضغط هذه الأسباب، فكتب في 10/5 إلى الحكومة الفرنسية بأن احتلال عكا لا يستحق كل هذه الخسائر الجسيمة وقرر في 20/5 فك الحصار، لكنه أمر جنوده برمي ما بقي معهم من قذائف على المدينة لدكّ أبنيتها وبالأخص قصر الجزار وما حوله، فمكثت عكا تحت القصف طوال فترة الانسحاب على مدى أربعة أيام إضافية أخرى متواصلة.
وبعد تفكيك معسكره ومقر قيادته من تل الفخار انسحب نابليون إلى مصر متسللاً لئلاّ يشعر المدافعون عن عكا بانسحابه، وألقى مدافعه الثقيلة وعتاد جيشه وأسلحتهم في البحر، وهذا لا يختلف كثيراً عن يهود بني النضير الذين قال الله تعالى فيهم {… فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} الحشر 2، وفي أثناء ذلك وصلت نابليون مراسلة من مجلس إدارة حكومة المديرين في باريس تطلب منه وجوب العودة فوراً إلى فرنسا،
بعد هذا الصمود الأسطوري لعكّا طيلة 67 يوماً من الحصار المشدد والقصف الناري المكثف تركها نابليون وعاد مهزوماً يجر ذيول الفشل وخيبة الأمل وضياع الأحلام باحتلال إسطنبول والقضاء على الدولة العثمانية، فعلى الرغم من أنه لم يهزم قبل ذلك في معاركه البرية الكثيرة إلا أن هزائمه بدأت تتوالى عليه بعدها، ومن شدة وقع هذه الهزيمة عليه قال في مذكراته [لقد أنْسَتْني عكا عَظَمَتي.. فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة.. على أسوارك تحطمت أحلامي يا عكا.. لو أنك سَقَطْتِ لغيرتُ وجه العالم.. وداعاً لا لقاء بعده] لتنتهي بذلك أحلامه باستعادة القدس في طريقه لاحتلال الشرق..
