بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: جهود العلماء في تدوين السنة النبوية المشرفة

ابتدأ تدوين الحديث النبوي الشريف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أذن للصحابة بذلك، وقد أوردتُ في المقال السابق  أمثلة عديدة تؤكد ذلك، فظهرت الصحائف العديدة التي جمعها بعض الصحابة فجمعها ونسخها عنهم بعض التابعين، وكذلك كانت رواية الحديث، فقد ابتدأت هي الأخرى في عهده صلى الله عليه وسلم بعد أن وجَّه الصحابة إليها صراحة، فنقلوا أقواله وأفعاله وتقريراته إلى من لم يسمعها منهم، ومن الأمثلة عليها ما رواه ابن أبي حاتم أن الصحابية صفية بنت شيبة رضي الله عنها قالت { بينما نحن عند عائشة… فذَكَرْنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة : إن لنساء قريش لفضلاً وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور(وليضربن بخمرهن على جيوبهن) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المُرَحَّل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله الصبح معتجراتٍ وكأن على رؤرسهن الغربان }، ومعنى معتجرات أي مختمرات ومتلفعات، والمروط هي الثياب غير المخيطة، والمرحلة أي الموشَّاة بصور الرحال.

في العهد الأموي ازداد الاهتمام بالسنة النبوية وبروايتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر كان أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان رحمه الله ممن أدرك خطر ضياعها، فدعا إلى بذل الجهود لهذا الغرض فقام خطيباً في الناس فقال [إن العلم سيقبض قبضاً سريعاً، فمن كان عنده علم فليظهره غير غالٍ فيه ولا جافٍ عنه]

وفي هذا العهد أيضاً أخذ تدوين السنة النبوية الصفة الرسمية، وقد كان قبل ذلك بمبادرة ذاتية من بعض الصحابة والتابعين، فهذا الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله يكلف بعض الأئمة بجمع الأحاديث وتدوينها، فقد كتب مثلاً إلى أهل المدينة المنورة كما ذكر الدارمي

[انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله]،

وكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عامله علي المدينة المنورة وقاضيها [ اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحديث عمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد، فكتب له ]، وجاء في رواية ابن حجر [فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.. ولا تَقْبَلْ إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولْيُفْشُوا العلم ولْيجلسوا حتى يَعْلَمَ من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً] وهذا ما فهمه واستوحاه عمر من قوله صلى الله عليه وسلم {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئِلُوا فأفْتَوْا بغير علم فضلوا وأضلوا} رواه البخاري، ومعنى دروس العلم أي ضياعه، وعمرة هي تابعيّة أنصارية نشأت في حجر عائشة رضي الله عنها وكانت من أثبت التابعين في حديثها، وأما القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو أيضاً تابعيّ من فقهاء المدينة السبعة وعمته عائشة رضي الله عنها.

وكلف عمر أيضاً ابن شهاب الزهري بجمع السنن، يقول ابن شهاب نفسه في ذلك [أَمَرَنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبَعَثَ إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً]، ثم أكثر ابن شهاب رحمه الله من الكتابة بعد وفاة عمر بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك، فجمع آثار الصحابة إلى جانب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.  لكن عمر رحمه الله توفي قبل أن يرى ما جمعه أبو بكر بن حزم، ولعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تبنى فكرة تدوين السنة النبوية من جهود والده الأمير عبد العزيز بن مروان رحمه الله، فقد كتب الأمير إلى كثير بن مرة الحضرمي حين كان أميراً على مصر [اكتب إلينا بما سمعتَ من الصحابة إلا حديث أبي هريرة فإنه عندنا]، وكان الأمير من تلاميذ أبي هريرة رضي الله عنه سمع جميع حديثه وقيده عنده، ثم رواه عنه ابنه الخليفة عمر، وكان كثير بن مرة أدرك سبعين بدرياً من الصحابة رضي الله عنهم. لم يبتدع عمر فكرة جمع الأحاديث وتدوينها، وإنما اقتدى بمن جمعها ودوَّنها من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين رحمهم الله، ولعله استند في هذا العمل إلى آراء أكثرية العلماء الذين عاصرهم،  

إذن لقد بدأ التدوين الرسمي للسنة النبوية قبل نهاية القرن الأول الهجري، وجمعت كنوز السنة النبوية في مشروع علمي عظيم تولاه أئمة العلم لتكون مرجعاً أساسياً يرجع إليه الناس بعد القرآن الكريم، فالعلماء ورثة الأنبياء وهم عماد العلم، ولم يأمر عمر بجمع السنة النبوية وتدوينها من فراغ، فقد أحس بضرورة ذلك لما رأى ظاهرة وضع الأحاديث المكذوبة ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الصحابة الذين كانت صدورهم أوعية للحديث النبوي قد غادروا المدينة المنورة وانتشروا في البلدان الأخرى، مما أورث القلق والخوف في قلوب التابعين من ضياع شيء من السنة النبوية، فموت الصحابة في تلك البلدان النائية قبل الاطلاع على ما معهم من التراث النبوي سيؤدي إلى ضياع كثير من الأحكام الدينية، لكن الله سبحانه وتعالى حفظ دينه، ومن هنا ظهرت رحلة العلماء طلباً لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعاً للسنة النبوية المشرفة.

والحديث الموضوع هو الخبر الذي يختلقه الكذابون وينسبونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم افتراء عليه، وأكثر ما يكون ذلك من اختلاق الوَضّاع من تلقاء نفسه بألفاظ من صياغته وإسناد من نسج خياله، واضعاً فيه حكمة رائعة أو كلمة جامعة أو مثلاً موجزاً، ويلجأ الوضَّاعون إلى الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم  والكذب عليه لدوافع خبيثة منها الانتصار لمذاهبهم الفكرية أو الفقهية، ومنها التقرب إلى الحكام لكسب الحظوة عندهم، ومنها التعالُم وظهور الجاهل بمظهر العلماء، وقد وضع علماء الحديث الأسس العلمية الدقيقة التي كشفت الموضوعات والإسرائيليات.   

لقد كان لهذه الجهود دور كبير في بدء ضبط السنة النبوية وصيانتها من الضياع وتمحيصها وتمييزها بأخذها من الحُفّاظ الأثبات، وهو نظير جمع القرآن الكريم تقريباً الذي قام على أساس المطابقة التامة بين المكتوب والمحفوظ الثابت

ثم بدأت مرحلة جديدة في التدوين ظهرت فيها الموسوعات الحديثيّة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وما يليه، ومن هذه الموسوعات مثلاً الجوامع والسنن والمصنفات والمستدركات والمسانيد والمعاجم : 

فالجوامع : هي كتب الحديث المرتبة على الأبواب التي تشتمل على جميع موضوعات الدين وأبوابه، وعددها ثمانية أبواب رئيسية هي العقائد والأحكام والسّير والآداب والتفسير والفتن وأشراط الساعة والمناقب، ومن أشهر هذه الجوامع : الجامع الصحيح للبخاري، والجامع الصحيح لمسلم، والجامع للترمذي المشتهر بسنن الترمذي، وسمي سننأً لاعتنائه بأحاديث الأحكام.

السنن : هي الكتب التي تجمع أحاديث الأحكام المرفوعة مرتبة على أبواب الفقه، وأشهرها سنن أبي داود، وسنن الترمذي وهو جامع الترمذي المذكور آنفاً، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجة، ويطلق عليها السنن الأربعة.

المصنفات : وهي كتب مرتبة على الأبواب لكنها تشتمل على الحديث الموقوف والحديث المقطوع بالإضافة إلى الحديث المرفوع، ومن أشهرها مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة. والحديث الموقوف هو ما روي عن الصحابي من قول أو فعل أو تقرير، والحديث المقطوع هو ما روي عن التابعي من قول او فعل أو تقرير،، وأما الحديث المرفوع فهو الحديث النبوي، وهو ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة.

المستدركات : وهي كتب تجمع الأحاديث التي تكون على شرط أحد المصنفين ولم يخرجها في كتابه، فمثلاً هناك أحاديث على شرط البخاري لكنه لم يخرجها، وأحاديث على شرط مسلم ولكنه لم يخرجها، فاستدرك العلماء عليهما وألفوا هذه المستدركات، وأشهرها المستدرك للحاكم، ثم جاء الإمام الذهبي فمحَّص أحاديثه وبين صحيحها من غيره.

المسانيد : وهي الكتب التي تذكر فيها الأحاديث مرتبة على أسماء الصحابة رضي الله عنهم بحيث يوافق حروف الهجاء أو السبق إلى الإسلام أو شرف النسب، وأشهرها وأعلاها مسند الإمام أحمد بن حنبل.

المعاجم : وهي الكتب التي تذكر فيها الأحاديث مرتبة على شيوخ المصنِّف وفق حروف الهجاء، وأشهرها المعاجم الثلاثة للحافظ الكبير الطبراني وهي : المعجم الصغير والمعجم الأوسط  وكلاهما مرتب على أسماء شيوخه، والمعجم الكبير المرتب على مسانيد الصحابة مرتبة على حروف الهجاء.

لقد استمرت رواية الحديث النبوي الشريف وتدوينه والارتحال طلباً له والتصنيف فيه على مدى العهود المتتالية، وظهرت لخدمته العلوم العديدة، ومر تدوينه وتمحيصه بمراحل طويلة حتى وصل إلينا محرراً مضبوطاً.

د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى