د. تيسير التميمي يكتب: غزوة دُومة الجندل

في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة للهجرة انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو قبيلة قُضاعة التي كانت تقيم شمال الجزيرة العربية قرب دولة الغساسنة الموالين للدولة الرومية والمشرفة على دُومة الجندل، وتقع هذه المدينة التجارية المهمة على الحدود بين الحجاز والشام في منتصف الطريق بين البحر الأحمر والخليج العربي، وتبعد عن يثرب مسيرة خمسة عشر ليلة أي خمسمائة كيلو متر تقريباً. وسُميت دومة نسبة إلى حصن بناه دُوماء بن سيدنا إسماعيل عليه السلام. وأضيف لها وصف الجندل ومعناه الصخر للتفرقة بينها وبين دُومة الحيرة.
وأما سبب الغزوة فقد كان موقع دومة الجندل على الطرق التجارية قد أكسب أهلها القدرة على التّعرّض لقوافل المسلمين والاستيلاء عليها في ظلّ توفّر الحماية العربية والمسانَدة الرومية لهم،
وبالفعل؛ وصلت الأنباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بتجمّع بعض القبائل العربية عند دومة الجندل بهدف محاربته والقضاء على دعوته ودولته ونية التخطيط للإغارة على قوافل المسلمين وسلبها تمهيداً لمهاجمة المدينة والاعتداء عليها فيما بعد.
والسكوت على هذا الخطر حتماً سيضعف قوة المسلمين ويسقط هيبتهم، ولتجنب تداعيات ذلك،
ولإشعار القبائل التابعة للمسلمين بالأمن على تجاراتهم، ولإقناع العرب أن بإمكانهم التصدي للروم وحلفائهم والوقوف في وجوههم،
فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من خطوة رادعة تقضي على عدوان تلك القبائل في مهده،
لذا فقد نادى الناس للخروج دفاعاً عن قوافلهم ومدينتهم، فلبوا داعي الله وتجهّز ألف مقاتلٍ منهم للجهاد في سبيل الله،
الرسول يسير نحو دومة الجندل
سار صلى الله عليه وسلم نحو دومة الجندل بعد أن استخلف على المدينة سِباع بن عُرْفُطَة الغفاري رضي الله عنه،
واستعان بدليلٍ ماهرٍ اسمه مذكور لاختيار أسلم الطرق وأبعدها عن مراقبة العدو.
ولمزيد من التمويه فقد كان يسير بالليل ويكمن بالنهار ليأخذ أهلها على حين غَرَّة منهم،
فبادرهم صلى الله عليه وسلم بالقدوم في الوقت الذي كانوا يخطّطون فيه لمهاجمة المدينة واستباحتها،
ففوجئوا بوصول المسلمين وأصابهم الخوف والفزع والهلع،
فتفرقوا وولَّوا مدبرين تاركين وراءهم الديار والأنعام والأمتعة التي صارت خلال فترة وجيزة غنيمة للمسلمين،
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بأن نصره الله بالرعب، بل بعث السرايا والفرق العسكرية وراء القوم لتتبّعهم،
فوجدوا منهم رجلاً واحداً فقط فأسروه، فسأله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال له [هربوا لما سمعوا بأنك أخذت نَعَمَهم]،
ثم عرض صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام فأسلم وحسُن إسلامه.
مكث صلى الله عليه وسلم في دومة الجندل عدّة أيّامٍ ثم رجع إلى المدينة، وفي أثناء عودته الْتقى بعيينةَ بن حصن الفزاري فوادعه،
ثم إن عيينة استأذنه بأن ترعى إِبِلَه في أرض قريبة من المدينة على ستة وثلاثين ميلاً منها،
وهذا دليل على أن عيينة أدرك قوة المسلمين وقدرتهم واتساع سيطرتهم التي بلغت تلك المنطقة.
لقد نجح صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة وحقّق عدة أهداف مهمة بالقضاء على شرّ أولئك الأعراب وحماية المدينة من خطرهم،
وبحرمان قريش من حلفاء جدد يحتمل أن يساعدوها بالإمدادات لاحقاً ضد المسلمين، وكانت الغزوة إشعاراً للروم بقوّة المسلمين وقدرتهم
المرة الأولى التي يصل فيها المسلمون دومة الجندل
كانت هذه المرة الأولى التي يصل فيها المسلمون دومة الجندل،
ولكنها ليست الأخيرة، ففي العام السادس للهجرة أرسل صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إليها،
وأوصاه بدعوتهم إلى الإسلام وبالزواج من بنت ملكهم، وبالفعل؛ أسلم ملكهم وهو الأصبغ بن عمرو الكلبي وأسلم معه منهم كثيرون،
لكن ظلت منهم طائفة على دينهم ودفعوا الجزية للمسلمين، وعاد عبد الرحمن إلى المدينة بعد أن تزوج تماضر ابنة الملك،
والمرة الثالثة كانت في العام التاسع للهجرة وأثناء وجود الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك؛
حيث أرسل خالداً بن الوليد رضي الله عنه إليها على رأس أربعمائة وعشرين فارساً ليجلب له ملكها النصراني أُكَيْدِر بن عبد الملك الكندي فجلبه،
ثم كتب له صلى الله عليه وسلم ميثاقاً إلى أهل دومة الجندل صالحهم فيه على الجزية.
وقد أهدى أكيدر هذا عدة هدايا للرسول صلى الله عليه وسلم عدة منها ثياباً حريرية،
فقد ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه
{أن أكيدر دومة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ثوبَ حريرٍ فأعطاه علياً فقال: شَقِّقْهُ خُمُراً بين الفواطم}
رواه مسلم،
والخمر جمع خمار وهو غطاء الرأس للمرأة، والفواطم هن:
فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوجة علي، وفاطمة بنت أسد أم علي وفاطمة بنت حمزة رضي الله عنها ابنة عم علي.
المرة الرابعة التي جاء فيها المسلمون إلى دومة الجندل
وأما المرة الرابعة التي جاء فيها المسلمون إلى دومة الجندل فكانت في إحدى معارك فتوح العراق،
وقعت أحداث تلك المعركة في الرابع والعشرين من شهر رجب من السنة الثانية عشرة للهجرة،
وقصتها أن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعد الانتهاء من حروب الردة والقضاء على فتنتها أرسل الصحابي عياضاً بن غنم رضي الله عنه لفتح هذه المدينة؛
حيث إنها انقلبت على الصلح الذي أبرمه صلى الله عليه وسلم لملكها أكيدر ولأهلها،
وصل عياض إلى دومة الجندل فوجدها محصنة تحصيناً شديداً من قبيلة كلب العربية المسيحية التي كانت تقطن المنطقة على الجانب الشرقي لسوريا،
وتمركز عياض على الجهة الجنوبية من الحصن وبدأ بالحصار،
وعلى الرغم من كون الطريق إلى الشمال مفتوحة إلا أن أهل المدينة اعتبروا أنفسهم محاصرين،
وكان المسلمون ملاصقين للحصن إلا انهم لم يستطيعوا التوقف، وأنحصرت العمليات القتالية على الرماية من قِبَل حامية الحصن،
وطال هذا الوضع على الطرفين واستمر، وهنا أشار أحد الرجال على عياض أن يراسل خالداً في العراق طلباً للنجدة،
ففعل عياض وشرح لخالد الوضع القائم في دومة الجندل، وصلت رسالة عياض عندما كان خالد يهم بالرحيل من عين التمر إلى الحيرة،
فرد خالد على عياض بأقصر رسالة إذ قال له [إيَّاك أريد]
فانطلق خالد على رأس ستة آلاف من جيشه نحو دومة الجندل بعد أن استخلف عويمر بن الكاهن الأسلمي على عين التمر.
دومة الجندل
عرفت الحامية في دومة الجندل بقدوم خالد إليها، وكان في قيادتها كل من أُكَيْدِر بن عبد الملك الكندي والجُودِيّ بن ربيعة، ونشب خلاف بين الزعيمَيْن،
فقال أكيدر [أنا أعلم الناس بخالد: لا أحدٌ أَيْمَنَ طائراً منه في حربٍ ولا أحدَّ منه، ولا يَرَى قومٌ وجهَ خالدٍ أبداً قَلُّوا أو كَثُرُوا إلاَّ انهزموا عنه،
فأطيعوني وصالحوا القوم]
ومعنى لا أيمن طائراً منه أي أنه مبارك الطلعة في الحرب وهي كناية عن نصره المؤكد فيها، إلا أن جودي ومن معه لم يستجيبوا لهذا الرأي،
فقال لهم [لن أُمالِئَكُم على حرب خالد، فشأنُكم ] فتنازل عن القيادة للجودي وخرج من المدينة،
ومعنى لن أمالئكم أي لن أناصركم ولن أعاونكم لعدم قناعتي بموقفكم،
ومعنى فشأنكم أي الرأي رأيكم، وخرج أكيدر من دومة الجندل كلها،
لكنه وقع أسيراً في قبضة خالد قبل وصوله دومة الجندل، وتم قتله فيما بعد.
وأعلنت حالة الاستنفار في الحصن، فالحامية تعلم أنها تستطيع مواجهة عياضٍ وجيشه،
ولكنها موقنة أنها لن تصمد مطلقاً في مواجهة خالد،
فأرسل أهل الحصن المحاصَرون رسلَهم على عجل إلى القبائل العربية المجاورة يطلبون منهم الدعم والمدد فسارعت تلك القبائل في تلبية استغاثتهم،
فوصل المقاتلون من الغساسنة ومن قبيلة كلب وغيرها دومة الجندل للدفاع عن الحصن،
وعسكر أغلبهم تحت جدران الحصن بسبب ضيقه وعدم اتساعه لمن فيه.
مجموع قوات المسلمين حوالي عشرة آلاف
أما خالد فبعد وصوله معسكر عياض ضم جيشه إلى قيادته وصار مجموع قوات المسلمين حوالي عشرة آلاف مجاهد في مواجهة ما يقرب من خمسة عشر ألفاً في المقابل،
وقد اتفق خالد وعياض على أن يكون أسلوب القتال بوضع العدو بين فكّي الكمّاشة ومهاجمته من جبهتين.
أوكل خالد لرجال عياض بن غنم سد الطريق إلى الجنوب من الحصن،
وتمركز هو بجيشه إلى الجهات الشرقية والشمالية والغربية مغلقاً بذلك الطرق إلى العراق والأردن،
وأبقى بعض قواته الاحتياطية على مسافة أبعد عن الحصن لتشارك في القتال عندما يتم استدعاؤها،
وبهذه الخطة سيستطيع الجيش المسلم تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة قبل الهجوم على الحامية بعد إضعافها.
انتظر قائد جيش دومة الجندل وهو جودي بن ربيعة أن يبدأ المسلمون الهجوم،
لكنه فوجئ ببقاء المسلمين هادئين لفترة من الوقت فقرر أن يبدأ هو بالهجوم والتحرك بمجموعتين:
الأولى تهاجم عياضاً على الطريق العربي،
والثانية وهي الأكبر عدداً بقيادته هو تهاجم معسكر خالد بن الوليد الواقع في الشمال الذي كان متأهّباً بجيشه للمعركة.
رد هجوم المجموعة الأولى
وتمكن عياض من رد هجوم المجموعة الأولى، وأثناء اقتراب المجموعة الثانية لمواجهة خالد وصارت المسافة بينهما قريبة جداً أمر خالد جنوده فجأة بالهجوم،
فضربوا جودي بعنف وسرعة كبيرين، فدُمر جيشه خلال دقائق خاطفة ووقع جودي في الأسر مع مئات من رجال قبيلته،
وهرب الباقون منهم بصورة فوضوية نحو الحصن.
رأى العرب الباقون في الحصن والذين لم يغادروه حشداً كبيراً يهرعون بإتجاه الحصن وكان نصفهم من المسلمين،
فأغلقوا على أنفسهم أبواب الحصن لئلا يدخله عليهم المسلمون المقتحمون،
وبذلك مُنعت قبيلة وديعة التي كانت تقاتل مع جودي من دخول الحصن،
ووقع عدد كبير منهم في الأسر، وكان قد قتل عدد كبير منهم أصلاً خلال المعركة،
ونجح بعض من هم خارج الحصن بالفرار فعطفت بنو تميم على بعضهم فأعطوهم الزاد فَنَجَوْا،
وهكذا كان جزاء تحالف الشر على الباطل والظلم والبغي،
فهو تحالف قائم على المصالح فقط فإن انتهت انتهى التحالف وتغيرت المواقف وانفضَّ المؤيدون والداعمون، وتخلّى بعضهم عن بعض.
أخذ خالد القائد جودي ومن أُسِرَ معه إلى أمام الحصن كي يرى أهل الحصن قطع رؤوسهم مما سيثير الرعب في قلوبهم فيستسلموا،
وهذا ما وقع بالفعل، فيعد أن دام حصار الحصن ومن فيه عدة أيام هاجم خالد الحصن فدافعت عنه حاميته ما استطاعت
وأبدت مقاومة عنيدة، ولكن لم يكن لها أية فرصة للصمود أكثر أمام خالد وجيشه،
ولم يزل خالد يحاول حتى اقتلع باب الحصن ونجح هو ومن معه باقتحامه، فقُتِلَ المحارِبون منهم جميعاً وأُسِرَ المدنيون الباقون،
وبعد هذا النصر العظييم تم تقسيم الغنائم وتوزيها على مستحقيها، وأقام خالد في دومة الجندل بعد ذلك أياماً ثم عاد إلى الحيرة.