د. تيسير التميمي يكتب: فدعا ربه أني مغلوب فانتصر
حثَّنا الله تعالى على الدُّعاء في كثير من آيات القرآن الكريم، وأوصانا به حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه الشريفة، والدعاء هو مناجاة الله تعالى وإظهار غاية التذلُّل والافتقار إليه والاستكانة له، وحقيقته أنه توجه المؤمن إلى ربه جل وعلا وتضرعه إليه طلباً للرحمة ورغبة بالعون والتوفيق في شؤون الدين والدنيا والآخرة، وهو من أفضل العبادات في ديننا الحنيف قال صلى الله عليه وسلم {الدعاء هو العبادة} رواه ابو داود، أي أنه روحها وجوهرها ولبها وخالصها، وجاء في رواية الترمذي {الدعاء مخ العبادة} فبالمخ تكون القوة للأعضاء، فهو إذن سر قوة العبادة لأن المؤمن إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه، حقيقة التوحيد والإخلاص ولا عبادة فوقهما.
فالإكثار من الدعاء والمداومة عليه يشعر الداعي بلذة القرب من الله تعالى وعمق الصلة به وعنوان التعلق به والإخلاص له في كل ما يعمل، لذلك فهو سبب عظيم للخير وباب وأسع من أبوابه:
* فهو من دلائل الإيمان ومن أسس إحكام الصلة بالله عز وجل وتوثيقها، لأن المؤمن موقن بأنه يطلب ممن هو وحده أهل للعطاء، ويتوجه إلى من بيده وحده الخير كله، وأنه لا ناصر ولا رازق ولا حافظ ولا معين سواه، وهذا يدفعه إلى طلب ذلك منه وحده على الدوام، وهذا عنوان التقوى: أن يجدك الله حيث أمرك وأن لا يراك حيث نهاك، فالإحجام عن الدعاء والتوسل إلى الله هو استكبار عن عبادته ودليل خللٍ في الإيمان بصفات الكمال التي يتصف بها الله عز وجل، قال تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} غافر 60.
* وبالدعاء يقضي الله عز وجل حوائج عباده ويؤتيهم من فضله العظيم، وبه يدفع عنهم المصائب والابتلاءات، ويزيل من طريقهم العقبات والشدائد، قال سبحانه وتعالى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} النمل 62.
* وفي الدعاء طمأنينة للقلوب وسكينة للأرواح وصفاء للنفوس، وشعور المؤمن بالرضا عن الله عز وجل بعيداً عن القلق والضيق والاضطراب والحزن، لأن المؤمن يكون بالدعاء قد أفضى إلى ربه بمعاناته وآلامه وشكواه، مباشرة دون واسطة أو إذن من أحد، فهو يوقن أن لا أحد يقف حاجباً على أبواب رحمة ربه يمنع هذا ويمنح ذاك، قال تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة 186.
* والدعاء يعلم المؤمن الصبر والاحتمال إذا حلت به المصائب وأقبلت عليه الشدائد، لأنه يلجأ حينها إلى الله مصدر النصرة والحماية والرعاية، فيصبر ويحتمل وينتظر رحمة وفرج ربه القادر على كل شيء.
* وبالدعاء يكون المؤمن قد أقر بالعبودية المطلقة لله، وشكر نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ويكون قد أحس أيضاً بفضل الله عليه وإكرامه له، مما يزيده نعماً وإكراماً من الله تعالى، فبالشكر تدوم النعم.
يقبل المسلمون دوماً من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدعاء إلى الله تعالى، بل من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ويبتهلون إليه إذا ضاقت بهم الدنيا وضاقت عليهم، والقرآن الكريم مليء بأدعية الرسل والأنبياء والصالحين، فمنها دعاء سيدنا نوح عليه السلام {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} القمر 10، ودعاء سيدنا موسى عليه السلام {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} القصص 21، ودعاء سيدنا يونس عليه السلام {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الأنبياء 87، ودعاء سيدنا لوط عليه السلام {رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} العنكبوت 30، ودعاء الجيش الذي ضم سيدنا داود عليه السلام في مواجهة جالوت {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} البقرة 256.
ومن أعظم الدعاء القنوت، فهو مهم لحاجة المسلم وحاجة الأمة إليه، ومن معانيه الدعاء على العدو، ولذا يرى كثير من العلماء القنوت في الصلوات الخمسة المفروضة في حالة النوازل بالأمة، قال ابن عباس رضي الله عنهما {قَنَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة يدعو على أحياءَ من بني سُلَيْمٍ وعلى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّة، ويُؤَمِّنُ مَنْ خلفه} رواه أبو داود، والقبائل المذكورة في الحديث هي التي اجتمعت على الغدر بالقراء السبعين في فاجعة الرجيع التي أشرتُ إليها في مقالات سابقة.
وقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله في كل أوقاتنا: في الشدة والمصيبة والظروف الصعبة، وفي أيام النعمة والرخاء والأمن، فقال {من سره أن يستجيب الله له في الشدة فليكثر من الدعاء في الرخاء} رواه الترمذي، ذلك أن الدعاء عنوان الصلة بالله، والمؤمن يحرص في كل أحواله أن يكون على صلة وثيقة بالله سبحانه وتعالى، فالشدة تشعره بأنه ضعيف وفقير إلى الله تعالى، والرخاء يشعره بفضل الله عليه وأن النعمة لن تدوم إلا بفضل الله ورحمته وشكره، أما من يعرض عن الدعاء وقت الرخاء فالغرور بالمتاع الدنيوي الزائل كالمال أو السطوة والسلطة والجاه هو الذي يمنعه ذلك.
ويشترط لقبول الدعاء شروطاً من أهمها:
* أن يكون المؤمن ملتزماً أحكام دين الله عز وجل وشرعه، وأن يكون حريصاً على رضاه بطاعة أوامره، وأن يكون بعيداً عما يغضبه بترك نواهيه والبعد عن كل المعاصي والآثام، وقد {ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام؛ فأنَّ يستجاب لذلك} رواه مسلم
* ألا يدعو المؤمن بإثم أو قطيعة رحم أو بكل ما هو محرم، قال صلى الله عليه وسلم {لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قَطيعة رحم…} رواه مسلم، وستثنى من ذلك المظلوم فإن دعوته ليس بينها وبين الله حجاب، وقد قال الله تعالى {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيماً} النساء 148، وقال صلى الله عليه وسلم {ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين} رواه الترمذي.
* أن يدعو المؤمن وهو موقن بالإجابة وأن الله لن يرده خائباً وأن يتجنب استعجال الإجابة، وإجابة الدعاء قد تكون بأن يعجل الله تعالى لعبده الداعي ما سأله من ربه، وقد تكون بأن يصرف عنه من السوء مثله، وإما أن تكون بادخاره له أجراً وثواباً ودرجات يوم القيامة فإن الاستعجال والسخط على بطء الإجابة هو آفة الدعاء، ويعتبر ترك الدعاء بسبب ذلك دليلَ اليأس، قال صلى الله عليه وسلم {يستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل، يقول دعوتُ فلم يستجب لي} رواه البخاري.
* ان يدعو الله عز وجل بما شاء مهما كان عظيماً فإنه لا مستحيل عليه، قال صلى الله عليه وسلم {إذا دعا أحدكم فلْيَعْزِم المسألة ولا يقولَنَّ اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له} رواه البخاري، وقال في المعنى ذاته {إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن لْيعزمْ المسألة ولْيعظمْ الرغبة، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه} رواه البخاري، ومعنى عزم المسألة أي الشدة والجزم في طلبها من غير ضعف أو تعليق على مشيئة ونحوها، ومعني ليعظم الرغبة أي يبالغ في طلبها ويكررها مهما عَظُمَتْ أو كثرت.
* أن يتخير لدعائه أفضل أوقات الاستجابة، التي منها يوم عرفة وشهر رمضان المبارك وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وعقب الصلوات وفي وقت السحر وعند نزول المطر، والله سبحانه وتعالى يتجلى في هذه الأوقات المباركة على عباده بالرضا والرحمة والمغفرة لإقبالهم عليه والانشغال بعبادته، ومن أفضلها أيضاً ساعة القتال جهاداً في سبيل الله والالتحام مع الأعداء فإنه وقت شدة وكرب وتضحية صادقة في سبيل دين الله وإعلاء كلمته، قال صلى الله عليه وسلم عن ذلك {ثِنْتان لا تردان: الدعاء عند النداء وعند البأس حين يَلْحَمُ بعضهم بعضاً} رواه أبو داود.
فلْنتوجه إلى الله دوماً بالسؤال والطلب والإلحاح أن ينصر شعبنا المجاهد الصابر المصابر المرابط في أرضه المقدسة وعلى تراب وطنه السليب في سائر فلسطين، وأن يتقبل تضحيات وجهاد أبنائه الشهداء والجرحى والأسرى، فالدعاء أصلاً والاستغاثة بالله هو سبب لثباتهم وتمسكهم بقضيتهم العادلة، وهو من أعظم أسباب نصرهم لأنهم يعلمون يقيناً أن النصر بيد الله عز وجل وحده فلا ناصر إلا هو، ويوقنون بأنه قريب مجيب لن يردهم خائبين، وسينجز لهم ما وعد به المجاهدين في سبيله.