بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: معركة بيت الأحزان

 معركة حطين التي وقعت عام 1187م والتي ترتب عليها تحرير مدينة القدس المباركة من أيدي الصليبيين الغزاة لم تكن المعركة الوحيدة التي خاضها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله معهم في أرض الشام وفلسطين،

فمن تلك المعارك الهامة جداً في التاريخ معركة بيت الأحزان،

وقعت أحداث هذه المعركة على أرض فلسطين المباركة قرب مخاضة يعقوب عند الجزء الشمالي من نهر الأردن بتاريخ 26 ربيع الأول 575ه‍ في شهر أغسطس من عام 1179م،

وتأتي أهميتها أنها مهَّدت وبشرت بتحرير المدينة المقدسة وعودتها إلى المسلمين أصحابها الحقيقيين.

معركة بيت الأحزان أو معركة شاتليه

 وتُعْرَفُ معركة بيت الأحزان هذه عند الصليبيين بمعركة شاتليه، ومعناها في لغتهم بوابة الحراسة المحصَّنة،

وهذه التسمية تتناسب تماماً مع الهدف من إنشاء القلعة في المكان الذي أقيمت فيه،

فبموجب أوامر الملك بلدوين الرابع شاركت المملكة الصليبية في القدس وفرسان الهيكل في بنائها لتكون بمثابة حصن لمواجهة الهجمات الإسلامية ضدهم ولتعزيز حماية الحجاج والتجار المسيحيين.

كان قرار بلدوين ببناء خط دفاعه الجديد المتمثل في هذه القلعة خطوة استراتيجية جريئة ظناً منه أن مثل هذا التحصين يمكن أن يهدد معقل صلاح الدين الأيوبي في دمشق

وأن يحمي القدس من محاولات المسلمين تحريرها وبالأخص القادمين من الشمال أي من الشام.

 اختار بلدوين هذا المكان تحديداً لبناء القلعة فيه لأنه يمثل نقطة مرور تاريخية بين الجولان وشمال الجليل،

فهو قرب بانياس أحد فروع نهر الأردن عند جسر بنات يعقوب في مكان يعرف بمخاضة الأحزان شمال بحيرة طبريا،

أما تسمية الجسر بجسر بنات يعقوب فلعلّه تصحيف من النُّسَّاخ، ومعنى التصحيف أي تحريف كلمة بتحويل وضع حروفها أو تحويل أحدها إلى آخر يُشبهه في شكل الكتابة،

فالجسر كان اسمه أصلاً جسر يعقوب، ثم وُصِفَ بأنه جسرٌ بَنَاهُ يعقوب، فَحُرِّفَتْ كلمة بَنَاهُ (من حيث الكتابة) إلى كلمة بناة (بالتاء المربوطة) ومن هنا أصبحت الكلمة بنات.

ظروف نشوب معركة حصن الأحزان

 وبخصوص الظروف التي أدت إلى نشوب معركة حصن الأحزان، فقد كان صلاح الدين الأيوبي سلطاناً على مصر وبحلول عام 1174 أصبح سلطاناً على سوريا أيضاً.

وفي ذات العام تولى الملك بلدوين الرابع عرش مملكة القدس وهو في الثالثة عشرة من عمره بعد وفاة والده عموري الأول،

 وكان السبب المباشر لهذه المعركة شروع الصليبيين بالفعل في بناء تلك القلعة المنيعة التي تقع على بعد 500 م جنوب غرب مخاضة يعقوب (جسر بنات يعقوب) على نهر الأردن وعلى بعد 15 كم شمال شرق مدينة صفد، وعلى بعد 16 كم جنوب غرب بانياس،

وفي ذات الوقت تبعد عن مدينة القدس 160 كم تقريباً. وأشاع الصليبيون أن هذه القلعة ستكون أضخم وأحصن قلعة في التاريخ وأن المسلمين لا قبل لهم بها ولن يقدروا عليها؛

حيث يبلغ عرض أسوارها عشرة أمتار تقريباً وأحجارها مماثلة لأحجار الأهرامات المصرية في ضخامتها، وجعلوا في السور برجاً وخمسة أبواب

 حفر الصليبيون في القلعة بئراً جعلوه عيناً لهم للشرب، وعسكر فيها حوالي 1500 بين فرسان وجنود ومهندسين ومعماريين وعمال بناء،

ووضعوا فيها أكثر من مائة ألف قطعة سلاح عسكرية، وكدَّسوا في خزنتها كماً كبيراً جداً من الأموال والثروات والذهب،

حماية سوريا واسترجاع القدس

 وبهدف حماية سوريا واسترجاع القدس، ونظراً للموقع الاستراتيجي للقلعة الذي يمكن الانطلاق منه إلى مختلف الاتجاهات للإغارة على بلاد المسلمين المحيطة في فلسطين وبلاد الشام،

ونظراً لأنها تهدِّد المنطقة بأسرها فقد أراد صلاح الدين القضاء على هذه القلعة الحدودية وهي في مرحلة البناء والتأسيس.

في البداية لم يتمكن من وقف البناء بالقوة العسكرية.

فلجأ إلى الطريقة السلمية بمفاوضتهم على إزالتها، فاشترطوا أن يدفع لهم ما انفقوا على بنائها،

فبذل لهم ستين ألف دينار فلم يقبلوا، فزادهم إلى مائة ألف دينار فلم يقبلوا أيضاً ظناً منهم أنه إذا بقي بناء القلعة تمكنوا بها من السيطرة والتحكم بكثير من بلاد الإسلام.

 وهنا أشار تقي الدين عمر بن توران شاه على عمه صلاح الدين أن يجهّز بهذا المال جيشاً لتخريب القلعة وهدمها

حيث قال [دعهم يكملوا بناءها ويرفعوا أسوارها وينشروا الأساطير عنها ويملأوا الدنيا بأخبارها،

حتى إذا ما أتموها على أكمل ما يظنون جاءهم الله بقوم يحسنون الظن بالله فيدكوها على رؤوسهم ويقتلعوها من جذورها،

وإنا بإذن الله ونصره لفاعلون] وقال له بكل صراحة وجرأة وشجاعة [ ادفع لنا الأموال التي ستدفعها إلى بلدوين ونحصد لك هذه القلعة حصداً]

فأخذ صلاح الدين بقوله، وصرح لأمرائه أنه إذا أتم الصليبيون بناء حصن القلعة [نزلنا عليه وهدمناه إلى الأساس]

 قرر صلاح الدين الاستيلاء على القلعة، فحشد جيشاً وسار نحو القلعة، وبثَّ الغارات ضد الصليبيين ليَشغلهم عن نجدتها،

فأشار عليه كبير الأمراء واسمه جاولي الأسدي وهو مقدم الأسدية بقتال الصليبيين في الحصن قتال اختبار ليعرفوا قوتهم

فقال له [الرأي أننا نجربهم بالزحف أول مرة ونذوق قتال مَنْ به وننظر الحال معهم: فإن استضعفناهم،

وإلا فنصب المجانيق ما يفوت] فقبل صلاح الدين رأيه ونفذه.

المسلمون يأسرون قادة ومشاهير الصليبيين

 كان صلاح الدين قد أرسل بعض عساكره في جلب المؤن والأخشاب لصنع أدوات الحصار ومتاريس المجانيق،

ولما علم الإفرنج بوجهة صلاح الدين جمعوا له الفرسان والمشاة والقادة وهرعوا للقائه،

لكن جيشهم تشتت بعض الشيء حيث تباطأ المشاة في الخلف، وقبل وصول صلاح الدين اصطدمت مقدمتهم بعسكر المؤونة ونشِب القتال بينهم،

وقاتل العدو قتالاً قوياً إلا أن الله عز وجل أنزل نصره على عباده المجاهدين حتى أن الملك بلدوين كاد يقتل يومها لكنه نجا بصعوبة،

ووقع في أسر المسلمين قادة ومشاهير الصليبيين منهم ابن البيرزان صاحب الرملة ونابلس،

وهو من أعظم الصليبيين ومنصبه من حيث الأهمية يأتي بعد الملك، ووقع في الأسر أيضاً أخو صاحب جبيل،

وكذلك صاحب طبرية ومقدم الداوية (فرسان الهيكل) ومقدم الاسبارتية (فرسان القديس يوحنا) وصاحب جنين وغيرهم كثير من مشاهير فرسانهم وطواغيتهم،

فأما ابن البيرزان فقد افتدى نفسه بمائة وخمسمائة ألف دينار وإطلاق ألف أسير من المسلمين،

وكان هذا اليوم مشهوداً للبطل عز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين،

 ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس من موضع القتال، وتجهز للدخول إلى قلعة الأحزان وهدمها بعد أن تعززت معنويات المسلمين بعد هذا النصر المؤزر،

وضع خطة أساسها حصار القلعة وأهلها قبل وصول أية إمدادات عسكرية من القدس أو المناطق المجاورة لها، فسار إليها في شهر ربيع الأول وأحاط بها،

وبث جنوده للإغارة على الصليبيين ففعلوا، ضرب صلاح الدين حصاراً على القلعة وأمر سلاح الرماية بإطلاق السهام عليها بهدف تشتيت انتباه الجنود داخل الحصن،

ولما علم بلدوين بهذا الهجوم طلب تعزيزات من القدس، لكن الاتصالات بينه وبين الحصن كانت بطيئة فاستمر الحصار عدة أيام،

في هذه الأثناء حاول الجنود داخل القلعة تعزيز البوابات الرئيسية المحيطة بها، أدى الحصار الشديد والمكثف إلى انهيار بوابة الحراسة لكن القلعة صمدت لعدة أيام.

الفرنج يصعدون إلى أسوار الحصن

 زحف صلاح الدين ومن معه إلى الحصن واشتد القتال، فصعد الفرنج حينئذ إلى أسوار الحصن ليحموا أنفسهم وحصنهم إلى أن يأتيهم المدد من طبريا حيث الملك بلدوين هناك،

 اشتد هجوم المسلمين على الحصن حتى أدركهم الليل، وبدأ النَّقَّابون المسلمون يحفرون نفقاً لاختراق الجدران الحجرية والحديدية في الركن الشمالي الشرقي للقلعة،

فلما كان الغد أشعلوا النيران في النقب وانتظروا سقوط السور يومين فلم يسقط إذ إنه كان قوياً والنفق ضيقاً،

فأطفأوا النار بالماء وعاد النَّقَّابون لتوسعة النقب تحت جنح الظلام، فلما انتهوا أشعلوا النار تحته من جديد فسقط الجدار يوم الخميس السادس والعشرين من شهر ربيع الأول،

فدخل المسلمون القلعة الحصينة وقد كان يظن العدو يقيناً أنهم لن يدخلوها أبداً، وقتل 800 ممن فيه وأسر الباقون وهم 700،

وأطلقوا كل من كان به من أسارى المسلمين، وأقام صلاح الدين في مكانه عدة أيام حتى هدم الحصن وألحقه بالأرض وكان الهدف من هدمه بالكامل ألا يعود الصليبيون لاستعماله مرة أخرى،

ثم عاد إلى دمشق غير أنه مات من أمرائه عشرة بسبب الحر الشديد في شهر آب وبسبب الوباء الناتج عن جثث قتلى الصليبيين في مدة الحصار التي استمرت لمدة أربعة عشر يوماً.

 على الجانب الآخر، كان بلدوين متمركزاً في طبريا ليكون قريباً من الحصن الذي هو ما زال في مرحلة البناء والتأسيس

بحيث إذا وقع أي هجوم عليه فستأتيه التعزيزات بسرعة وبالأخص أن ما بني من الحصن كان قوياً وقادراً على الصمود حتى وصول الإمدادات فيما لو تعرض للحصار،

لكن في ذات اليوم الذي دخل فيه صلاح الدين وجنوده القلعة انطلق بلدوين وتعزيزاته من طبريا لإنقاذ الفرسان والمهندسين المعماريين وعمال البناء وعددهم 1500،

لكن ذلك كان بعد فوات الأوان، فمن لم يقتل منهم وقع في الأسر، وتمت تسوية قلعته بالأرض،

فعاد بلدوين بتعزيزاته المرافقة إلى طبريا، ولم يلبث أن مات مريضاً بعد فترة غير طويلة.

د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى