د. تيسير التميمي يكتب: معركة موهاج
وقعَت هذه المعركة التاريخية على أرض سهل موهاج (موهاتش) في دولة المجر بين الجيش العثماني بقيادة السلطان سليمان القانوني رحمه الله وبين الجيش المجري بقيادة الملك لايوش (لويس الثاني) في يوم الأربعاء 20 من ذي القعدة 932 هـ الموافق 29 أغسطس 1526م عصراً واستمرت ساعة ونصف فقط،
حيث انتهت فوراً منذ اول صدام بين الطرفين وأسفرت عن انتصار ساحق للجيش العثماني وهزيمة مدوية للمجر قضت على دولتها وجيشها قضاء تاماً.
أما عن الأسباب المباشرة لهذه المعركة والظروف التي أدت إليها فقد تعرض الملك فرانسوا الأول ملك فرنسا للهزيمة في معركة باڤيا في 24 فبراير 1525م أمام قوات الإمبراطور الروماني المقدس شارلكان ووقع في الأسر.
فبعد عدة أشهر من السجن أُرغم فرانسوا الأول على توقيع معاهدة مدريد المذلة له ولفرنسا.
فاستنجدت والدته بالسلطان سليمان لفك أسره، فوافق السلطان على طلب المساعدة وشن الحرب على المجر لكسر قوة شارلكان.
أصدر السلطان أوامره للتحضير للحملة في 10 مارس 1526م، ثم انطلق بنفسه من إستانبول في 23 أبريل 1526م على رأس جيش يزيد عدده عن 80000 جندي، ومعه 300 مدفع، ومعه أيضاً 800 سفينة،
وتمكَّن من عبور نهر الدانوب بفضل الجسور الكبيرة التي قام مهندسو الجيش بتشييدها؛ حيث لم تحاول القوات المجرية تعطيل أعمال البناء على الرغم من إدراك القادة بولس أن الدفاع عن المعابر هي فرصتهم الوحيدة لصد الجيش العثماني.
أما الجيشٍ المجري المدعوم من الممالك والدول الأوروبية ومن البابا فكان بقيادة الملك لويس الثاني،
وبلغ عدده 200000 تقريباً مِن بينهم 83000 من القوات المساعدة التي جاءت من ألمانيا، ومعه 86 مدفعاً، وقد اختار سهل موهاج ليكون ميداناً للمعركة.
وصول السلطان سليمان وقواته وادي موهاكس
وصل السلطان سليمان وقواته وادي موهاكس بعد 128 يوماً من خروج الحملة، ويقع هذا الوادي الآن على مسافة 185 كم شمال غرب مدينة بلغراد ومسافة 170 كم جنوب مدينة بودابست،
وكانت الأمطار الغزيرة قد حولت الوادي فعلياً إلى مستنقعات كبيرة.
وفور وصوله عقد السلطان مجلس الحرب في أعلى سهل موهاكس ضم جميع قادة الجيش بما فيهم الصدر الأعظم إبراهيم پاشا،
وفي الاجتماع اقترح بالي بك أوغلو أحد قادة حرس الحدود العماني مهاجمة أجنحة الجيش المجري ومؤخرته
لتحقيق أكبر فائدة. فوافق السلطان والمجلس على هذا الاقتراح وتم تنفيذه عملياً في الميدان
اصطفت تشكيلات الجيش العثماني حسب الخطة الحربية التي بناها إبراهيم باشا في ثلاثة صفوف متعاقبة:
الصف الأمامي تحت قيادة إبراهيم پاشا، والصف الثاني تحت قيادة بهرام باشا،
والصف الثالث الذي يتكون من صاعقة الإنكشارية فهو تحت قيادة السلطان سليمان نفسه.
أما الجيش المجري فعلى الرغم من كثرة عدده إلا أنه لم تكن قدراته كافية لمواجهة الجيوش العثمانية المتمرسة في المعارك، وأيضاً لم يكن منظماً تنظيماً عسكرياً جيداً،
فقد كانت تشكيلاته من صفين حسب خطة المعركة التي وضعها القادة. يتكون الصف الأول من المشاة وعددهم عشرة آلاف جندي،
ويتألف من الميمنة بقيادة باتياني ومن الميسرة بقيادة بيرني وهو حارس تاج المجر المقدس،
ونُصِبَتْ المدفعية موزعة على طول هذا الخط، أما الصف الثاني فعلى الرغم من وجود الملك فيه إلا أنه لم يكن قوياً بما يكفي،
ويتكون من أربعة طوابير، ولحماية الملك كان فيه ثلاثة آلاف من سلاح الفرسان الثقيل ووحدات من سلاح الفرسان الخفيف وعدد صغير من المشاة.
خطة عسكرية ذكية
رسم إبراهيم باشا خطته العسكرية الذكية، فأساسها يقوم على جذب المجريين إلى قلب الجيش العثماني
وذلك بإفساح المجال لهم للبدء بمهاجمة الجيش العثماني ومن ثم تقوم مقدمة الجيش العثماني بالانسحاب إلى الوراء
وتقوم الميمنة والميسرة بالتباعد عن مركز الجيش فينخدع جيش العدو ويستمر في التقدم
وبالمقابل كانت خطة الجيش المجري تشير إلى ارتكاب مجلس حربه أخطاء خطيرة، فأولاً اختاروا ساحة المعركة بالقرب من موهاكس،
وهو سهل مفتوح غير مستوٍ مليء بالمستنقعات وتحيط به تلال ومرتفعات مما يعني عدم توفر خط جيد للرجعة،
وثانياً خططوا للاشتباك التدريجي مع الجيش العثماني،
وكان الأولى بهم مهاجمته فور وصوله واستغلال التعب والإرهاق الذي عاناه الجنود العثمانيون
بسبب قطعهم المسافات الطويلة وعبورهم الأنهار والتضاريس الصعبة وسط أجواء شديدة الحرارة.
وأما عن سير المعركة وأحداثها ففي يوم اللقاء بالعدو ارتدى السلطان سليمان درع الحرب،
وبدأ يتنقل بين صفوف جنود جيشه بعد صلاة الفجر وهو على حصانه الأبيض يبثَّ فيهم روح الاستشهاد ويرغّبهم بالآخرة
ويذكرهم بالآيات التي تحرضهم على الجهاد، ثمَّ دخل بين صفوف فرقة الصَّاعقة الإنكشارية
وهي أقوى فرق الجيش العثماني وخطب فيهم يحثهم على الصبر والثبات في ميدان القتال في سبيل الله والاستبسال في قتال عدوهم وبشَّرهم بالنصر عليه،
وكان مما جاء في خطبته [ إن روح الرسول صلى الله عليه وسلم تنظر إليكم ].
سلاح الفرسان الخفيف
أرسل إبراهيم باشا سلاح الفرسان الخفيف بقيادة بالي بك وغازي خسرو إلى جانبَيْ الجيش المجري بهدف تشتيت انتباه جنوده عن نزول الجيش العثماني إلى السهل.
ولما نزلت الوحدات العسكرية التي يقودها السلطان إلى سهل موهاكس أمرهم السلطان بالتخييم ونصب المدافع في مواقعها
وتمت حمايتها بالأسياج والأوتاد، أوْحَتْ هذه الخطوة للمجريين أن الجيش العثماني لا يريد الانخراط في المعركة في ذلك اليوم لظنهم أنهم متعبون،
وقام القائد العام للجيش المجري بإقناع ملكه بأن الهجوم في هذا التوقيت هو الخيار الصحيح،
فخطته تلخصت في إلحاق الهزيمة بالجيش العثماني قبل أن يكتمل تشكيله وينتظم،
لذا تقرر الهجوم على جناح الجيش العثماني الذي يقوده إبراهيم پاشا،
وبالفعل هجم المجريُّون على الجيش العثماني في وقت العصر، في البداية اشتبك معهم إبراهيم باشا لبعض الوقت
ثم أصدر الأمر لقواته بالتراجع إلى الوراء حتى يستدرج فرسانهم المدرعة للاندفاع نحو عمق الجيش العثماني ليصبحوا في مرمى مدافعه وقناصته،
فلما ضغطتهم القوات العثمانية من الجوانب اندفعوا أكثر إلى عمق الصف الثالث فشعروا بالنجاح لدرجة أن إحدى الفرق الفدائية المجرية أقسم قائدها على أسر السلطان سليمان أو قتله،
وبدأت هذه الفرقة بإطلاق السهام على السلطان أصاب بعضها درعه إلا أنه ظل ثابتاً في مكانه لم يتحرك منه.
نشوة الخدعة
وقع القادة المجريون في نشوة الخدعة، فأعطوا الأوامر للصف الثاني بالهجوم فوراً على الجيش العثماني ظناً منهم أن الصف الأول قد انتصر عليهم وهزمهم وأنه حان دور اكتساحهم والقضاء عليهم،
وهنا انشغل كثير منهم في نهب غنائم المعسكر العثماني، وفجأة دخلت المدفعية العثمانية المعركة ففتحت نيرانها المكثفة عليهم
مما أوقع الرعب في قلوبهم فهربوا من الميدان ولم يستطيعوا الصمود، فلاحقهم العثمانيون
وأوقعوا في صفوفهم خسائر فادحة وقُتل أغلب فرسانهم، وظن كثيرون أن ملكهم قتل،
لكنه في الحقيقة كان من الفارين في جنح الظلام.
وأثناء الفرار غرق معظم الجنود المجريين في مستنقعات وادي موهاكس ومعهم الملك لويس الثاني وسبعة من الأساقفة
وجميع القادة الكبار ولم ينجُ منهم أحد، ووقع في الأسر خمسة وعشرون ألف جندي،
لم تستمر معركة موهاج أكثر من ساعةً ونصف تم فيها تدمير القوة الرئيسية للجيش المجري،
وقضي على الخيالة المجرية المدرعة والفرسان الثقيلة، كل ذلك بفضل التفوق العسكري الذي تميز به الجيش العثماني
واستخدامه الفعال للمدفعية المحمولة والبنادق، وهو ما لم يواجهه الأوروپيون من قبل مما أدى إلى هزيمة كبيرة للمجر.
أما خسائر الجيش العثماني فكانت ألفاً وخمسمائة شهيد رحمهم الله وتقبلهم، وعدد الجرحى كان بضعة آلاف، ولم يقع أي منهم في المستنقَع،
انتهاء المعركة
بعد انتهاء المعركة، دفن العثمانيون كل القتلى المجريين، واستراحت قواتهم في ساحة المعركة لستة أيام،
عندما وصلت أخبار كارثة موهاكس إلى بودا في 30 أغسطس، غادرت الملكة ماري زوجة الملك المقتول لويس وحاشيتها المدينة على الفور وتبعهم الألمان والمجريون.
ومع فرار الملكة والنبلاء ورجال الدولة والشعب المجري بقي اليهود فقط في المدينة.
فتوجه رئيسهم سلامون على رأس وفد منهم وسلموا مفاتيح قلعة بودا إلى السلطان سليمان
فاستلمها ودخل المدينة في 3 ذي الحجة سنة 931 هجرية الموافق 10 سبتمبر سنة 1526م،
مشدِّدًا الأوامر على الجنود بعدم التعرُّض للأهالي والمحافظة على النظام،
وبعد دخول السلطان إلى مدينة بودا مكث فيها ثلاثة عشر يوماً ينظم شئونها، ثم جمع أعيان القوم وأمراءهم وتوَّج يوحنا زاپولياي أمير ترانسيلڤانيا ليكون ملكاً على المجر التي أصبحت تابعة للدولة العثمانية.