بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: معركتا الأنبار وعين التمر

د. تيسير التميمي.. قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

 معركة عين التمر هي إحدى معارك فتوح العراق، وقعت أحداثها على أرض العراق في شهر ربيع الثاني من السنة الثانية عشرة للهجرة، ودارت رَحاها بين المسلمين بقيادة سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه وبين جيش من قبائل العرب المتنصرة الموالية للفرس بقيادة عُقَّة بن أبي عقة، وهي معركة غريبة إذ إنها سرعان ما انتهت قبل بدئها فعلياً، وعين التمر تقع قرب مدينة الأنبار، وقد أسسها الفرس لحماية حدودهم، وأكثر سكانها من العرب المتنصرة الموالين للفرس،

 وقصة هذه المعركة تستدعي الحديث عن معركة الأنبار التي سبقتها مباشرة، فبعد سقوط الحيرة بيد المسلمين في قبضة خالد في شهر ربيع الأول من عام 12 للهجرة قرر التوجه منها إلى مدينة الأنبار، ففي منتصف شهر ربيع الثاني من العام ذاته سار إليها خالد بتسعة ألاف مقاتل وهم نصف جيشه، وترك خلفه حامية قوية في الحيرة وعدة وحدات عسكرية في أواسط العراق،

 والأنبار هي إحدى مدن ولاية ساباط الواقعة غرب المدائن عاصمة الفرس، وممن يسكن فيها حاكم ساباط الفارسي واسمه شيرزاد، وهو قائد مشهور بالذكاء والثقافة لكنه أمير جبان يفتقر إلى الكفاءة العسكرية، فعندما علم بقدوم خالد وجيشه سيطر عليه الشعور الداخلي العميق بالهزيمة بدليل قوله لمن حوله [إذا قَدِمَ خالد فليس لنا إلاَّ الهزيمة]

 فلما وصل خالد الأنبار فرض عليها الحصار. وفي اليوم التالي لوصوله بدأ يتجوَّل حول الحصن ليكتشف دفاعات عدوه، فوجد أن المدينة محاطة بالأسوار المنيعة ومحصَّنة بخندق عميق يحيط بها مملوء بالماء، ويقع الخندق في مرمى سهام رماة الفرس الذين يقفون على الأسوار، وهذا سيُفْشِلُ محاولات المسلمين لاجتيازه، وقد بيَّن لنا التاريخ أن الفرس كان من عادتهم في قتالهم أن يحفروا الخنادق حول الحصون، وهنا نستذكر قصة الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، وقد أسهمت هذه الخطوة الغريبة على العرب في صد العدو ومنعه دخول المدينة المنورة.

 ومن أغرب ما لاحظه خالد أن هناك آلافاً من الرماة والجنود الفرس والعرب يقفون على قمة السور وينظرون إلى المسلمين. فقال خالد [ إني أرى أقواماً لا علم لهم بالحرب ] فجمع ألفأ من أكفأ الرماة وأمهرهم وشرح لهم خطته: عليهم أن يتقدموا بحرصٍ شديد الى طرف الخندق وأقواسهم جاهرة للرمي دون أن يضعوا فيها السهام، وعندما يعطيهم الاشارة عليهم أن يضعوا السهام بالأقواس بسرعة ثم يرموا الرشقة تلو الرشقة على الواقفين على السور مستهدفين عيونهم فقط. فلما أعطاهم الأمر أنطلق الرماة المسلمون بألف سهم فقأت لجنود العدو ألف عين، فتصايح الناس: ذهبت عيون أهل الأنبار. فلذلك سميت هذه المعركة بذات العيون،

 ولما رأى شيرزاد ما أصاب جنود جيشه ورُماته أرسل مبعوثيه إلى خالد يطلب الصلح على أمر لم يوافق عليه خالد، فأرجع المبعوثين وخيَّر شيرزاد بين الخصال الثلاثة التي يدعوا كل الفاتحين والمجاهدين عدوهم إليها وهي: الإسلام أو الجزية أو الحرب، فاختار قائد الفرس الحرب والقتال.

 فكانت الخطوة التالية لخالد التحضير لمهاجمة الحصن بالتغلب على مشكلة الخندق، فاختار أضيق نقطة من الخندق وهي قرب البوابة الرئيسية للسور وأمر بالإبل الضّعيفة الهزيلة والمُسِنَّة والرديئة فنُحِرَتْ ورُمِيَتْ في الخندق، فأصبحت جثثها بمثابة جسر لهم فوقه، فعبرته مجموعة من جنود المسلمين وحاولت تسلق السور، فخرجت لهم مجموعة من جنود الفرس وهاجمتهم بقوة ونشب قتال عنيف بينهم، لكن المسلمين صدوا هذه الهجمة فانسحب الفرس إلى داخل الحصن واغلقوا بوابته عليهم لمنع دخول المسلمين.

 فقرر خالد الآن تسلق الأسوار وبدأ جنوده يستعدون للتسلق بتحضير السلالم المخصصة لذلك، وهنا جاء مبعوث القائد شيرزاد وقدم عرضاً جديداً، ويتضمن العرض تسليم الحصن للمسلمين مقابل الموافقة على خروج شيرزاد آمناً إلى المدائن في حامية صغيرة من جيشه لا تتجاوز الجنود العشرة بغير سلاح أو مال، فوافق خالد على هذا العرض حفاظاً على الأرواح وحقناً للدماء، وخرج شيرازاد بحاميته الصغيرة إلى المدائن،

 وبالمفهوم العسكري يعتبر هذا الموقف جبناً وهروباً، لقد ترك جنوده الفرس لمصيرهم بالوقوع أسرى في أيدي المسلمين، وأيضاً تخلى عن حلفائه من نصارى العرب الذين يوالونه ويوالون دولته ويشاركونها في حروبها، وهذا حال ومصير من يوالي قُوى الظلم والبغي لتحقيق مصالح ضيقة غير مضمونة ولا ثابتة في عالم السياسة،

 وعندما وصل شيرزاد المدائن عاصمة دولته تعرّض للملامة القاسية من بَهْمَن قائد الجيوش الفارسية، فقال له شيرزاد [ كيف أقاتل من فقأ ألف عين في أول رمية ؟ ] وفي اليوم التالي للاستسلام دخل المسلمون حصن الأنبار، وألًقى الجنود العرب الموجودون فيه أسلحتهم ووافقوا على دفع الجزية، وفيما بعد تبعتهم جميع القبائل التي تسكن الأ نبار

 ولما فرغ خالد من فتح الأنبار واستحكمت له استخلف عليها الصحابي الزبرقان بن بدر رضي الله عنه وانطلق بجيشه إلى عين التمر، فاستغرب لوجود جيش عربي خالص فيها ليس بينهم أحد من جنود الفرس، فالمعتاد أن جيوش الفرس في هذه المناطق كانت تضم جنوداً من الفرس وجنوداً آخرين من نصارى العرب الموالين لهم يقاتلون معاً، وهذا ما كانت عليه فعلياً حامية عين التمر على الدوام، لذا كانت بحصنها وحاميتها في مركز أقوى وأهم من مركز الأنبار.

 ومن معالم مركزيّتها أن قائدها الفارسي هو مهران بن بهرام، وکان قائداً ماهراً وسياسياً محنكاً، وينتمي سكانها العرب الى قبيلة النمر شديدة البأس، ويوجد فيها أيضاً قبائل عربية أخرى انضمت إليها لتكوين جبهة متحدة ضد المسلمين ومنها قبيلتيْ تغلب وإياد وغيرهما. وكان قائد جميع هذه القبائل العربية اسمه عقة بن ابي عقة.

 أما لماذا كان جيش عين التمر عربياً صرفاً فقد كان القائد عقة هذا متعجرفاً يريد الفخر والمجد بالانتصار على المسلمين وحده بغير مساعدة الفرس، فلما جاءته الكشّافة بخبر اقتراب المسلمين من عين التمر ذهب إلى القائد الفارسي مهران وقال له [ إن العرب أعلم بقتال العرب فَدَعْنا وخالداً ] ومعنى دعنا وخالداً أي اتركنا نتواجه معه ولا تتدخل، فرد عليه مهران ساخراً [ صدقت، لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم، دونكُمُوهم، وإن احتجتم إلينا أعنَّاكم ] والمقصود بلفظة لعمري القسم، ومعنى إنكم لمثلنا في قتال العجم أي كما أنكم أعلم بقتال العرب منا فنحن أعلم بقتال العجم منكم، ومعنى دونكموهم أي ها هم أمامكم فقاتلوهم، فازداد غرور عقة بمدح مهران

 فلما ذهب عقة قال الفرس لمهران [ ما حملك على أن تقول هذا القول ؟ ] فقال لهم [ دعوهم؛ فإني ما أردت إلا خيراً لكم وشراً لهم ! إنه قد جاءكم مَنْ قتل ملوكَكُم وفَلَّ حدَّكم فاتَّقَيْتُه بهم، فإن غلبوا خالداً فهو لكم، وإن غُلِبُوا قاتلنا خالداً وقد ضَعُفُوا ونحن أقوياء ] فاعترفوا بسداد رأيه،

 وللمرة الثانية يترك الفرس حلفاءهم العرب الذين قدموا لهم الولاء واختاروا الوقوف في صفهم ومعسكرهم، ولو كان للعرب عندهم وزن لما وافقوا على اقتراح عقة.

 بقي الفرس في عين التمر، بينما خرج عُقَّةُ بجيشه العربي وأوغل في الصحراء لمبادرة المسلمين بالهجوم، فقد عسكر في منطقة صحراوية تسمى الرمالية، وبدأ بترتيب صفوف جيشه للقتال، وهذه المرة الأولى التي يرى خالد فيها عقة، فعلم خالد بفراسة المؤمن أنه شديد الغرور، وفي هذه الفراسة روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قوله في حديث موقوف { اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم تلا قوله سبحانه وتعالى { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } الحجر 75

 على إثر هذه النظرة الفاحصة قرر خالد القيام بحيلة جريئة وهي خطف عقة نفسه وأسره، ولتنفيذها رتب جيشه على نظام قلب وميمنة وميسرة، وكان هو في مقدمة القلب، واختار مجموعة من أقوى جنوده ليكونوا خلفه حُماة وحرساً خاصاً له، وأصدر تعليماته إلى قائدَيْ الميمنة والميسرة للاشتباك الخفيف مع ميمنة العدو وميسرته عند صدور إشارته لهما، وكان يهدف إلى إشغال الميمنة والميسرة في جيش العدو حتى يُنْهي هجومه على عقة بواسطة القلب.

 تقدم خالد بجيشه والْتقى وجهاً لوجه مع عقة وجيشه، ولما أعطى خالد الإشارة المنتظرة اشتبك جناحا المسلمين مع جناحَيْ العدو لبعض الوقت بينما بقي القلب في سكون، فاستغرب عقة تأخر هجوم قلب جيش المسلمين، ولكن هذا الاستغراب لم يستمر طويلاً، فقد خرج عقة يطلب من يبارزه على عادة معظم الجيوش في حروبهم يومها، فخرج له خالد وبدأ بمهاجمته، واشتبك حرسه الخاص بمحاربي عقه، وعلى الرغم من أن عقة كان شجاعاً ومقاتلاً ماهراً إلا أن خالداً لم يضرب عقة ولم يقتله؛ بل أطاح بسيفه من يده في ضربة واحدة واحتضنه وأخذه أسيراً وعاد به إلى جيش المسلمين، هكذا بسرعة خاطفة وبكل سهولة.

 فلما رأى الجنود العرب قائدهم أسيراً فزِعوا وأصابهم الهلع الشديد فاستسلم كثير منهم وفر الباقون من أرض المعركة قبل أن يستلُّوا سيوفهم من أغمادها، وتوجهوا إلى الحصن الفارسي فوجدوه خالياً؛ إذ إن مهران لما علم من كشافته بهزيمة العرب أمام خالد وفرارهم قبل بدء القتال انسحب بجيشه فوراً من حصن عين التمر إلى المدائن. فلما اندفع الفارُّون الى الحصن الفارغ دخلوه ليتحصّنوا فيه وأغلقوا أبوابه عليهم.

 وللمرة الثالثة يغادر الفرس المنطقة نجاة بأنفسهم، ويتركون حلفاءهم العرب لمصيرهم على أيدي خالد وجيشه إما القتل وإما الأسر، وفي ذلك دروس عظيمة وعِبَرٌ ثمينة ينبغي الاعتبار بها، فما التاريخ إلى للاعتبار والاتعاظ، قال سبحانه وتعالى { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } غافر 82.

 ولاحق خالد وجنوده العرب الفارّين إلى الحصن فحاصروهم. وأُحْضِرَ عقة وباقي الأسرى أمام الحصن، فلما رأى المدافعون عن الحصن قائدهم وأسراهم مكبَّلين بالأصفاد والحديد طلبوا الاستسلام بشروطهم، لكن خالداً رفض تلك الشروط وأصرَّ على استسلامهم بلا قيد أو شرط، فتشاور ذوو الراي منهم فيما بينهم فقرروا الاستسلام لأن مغامرة القتال ومواجهة المسلمين غير مضمونة النتائج، فإن من فر قبل بدء القتال خوفاً وهلعاً لن يثبت في الميدان أمام خصمه بعد أن كشف له عن نقطة ضعفه ومكمن هزيمته.

 وبعد أن تسلم خالد الحصن أمر بقتل عقة ومحاربيه. أما المدنيون فهم أسرى حرب، وفي أثناء تفقد الحصن وجد خالد في الكنيسة التي فيه أربعين غلاماً وعليهم باب مغلق فكسره، وسألهم عن حالهم فأجابوه بأنهم رهائن لدى أهل عين التمر يعلمونهم الإنجيل، فقسَّمهم على أهل البلاد من جنده فمنهم من حرر الذي أعطي له ومنهم من باعه، وكان من بينهم سيرين والد الفقيه ومفسر الرؤى والأحلام محمد بن سيرين. ونُصَيْر والد القائد المجاهد موسى بن نصير فاتح الأندلس، ويسار جد محمد بن إسحاق كاتب السيرة النبوية المشرفة رحمهم الله جميعاً.

د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights