د. تيسير التميمي يكتب: من المعارك الهامة بين المسلمين والفرس «معركة الولجة»
معركة الولجة وقعت في عام 12هـ، ودارت بين المسلمين والفرس على تخوم العراق في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانت بين جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وجيش الفرس وحلفائه من العرب المسيحيين بقيادة أندرازغر حاكم خراسان التابع لملك الفرس أردشير الثالث، وهو فارسي نشأ بين العرب في العراق وربطته بهم علاقات قوية. وكان الانتصار في معركة الولجة ساحقاً للمسلمين رغم التفوق العددي للفرس.
خلفية المعركة: بمجرد أن أخمد نار الردة بدأ أبو بكر الفتوحات التي أطاحت بالإمبراطوريتين العظمَيَيْن الفارسية والرومانية، مما أدى إلى قيام دولة إسلامية ذات قوة عظمى في فترة وجيزة، فبعد انتهائه من حروب الردة تلك وصلت أبا بكر أخبار الحملات العسكرية للصحابي المثنى بن حارثة الشيباني رضي الله عنه وجهاده في سبيل الله مع رجال من قومه ضد الفرس وعلى تخوم العراق، فلما سأل عنه وُصِفَ له بأنه [رجل غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا ذليل العماد] ثم إن المثنى بعد ذلك وفد بنفسه على أبي بكر في المدينة المنورة وقال له [يا خليفة رسول الله: استعملني على من أسلم من قومي أقاتلْ بهم هذه الأعاجم من أهل فارس] فكتب له عهداً بذلك.
قرر أبو بكر الصديق البدء بفتح العراق، فكتب إلى خالد بن الوليد بجمع جنوده المتفرقين في اليمامة وما حولها والاتجاه بهم إلى العراق رفقة المثنى بن حارثة، وقد استغل المثنى الفوضى التي عمت أرجاء بلاد فارس بعد موت كسرى أنوشروان وتَسَلُّمِ حفيده شيرويه الذي قتل أباه و18 من إخوته للتفرد بالحكم، ثم إن شيرويه هذا قُتِلَ بعد 7 أشهر مما زاد النزاعات الداخلية التي نهشت جسد الإمبراطورية الفارسية حتى آل الحكم ليزجرد الذي كان آخر ملوكها.
جيش الفرس: سبقت معركة الولجة سلسلة من المعارك التي انتصر فيها المسلمون على الفرس انتصاراً ساحقاً منها معركة ذات السلاسل (في شمال الكويت اليوم) ومعركة المذار (شمال البصرة اليوم) التي قتل فيها ما يقرب من 30 ألفاً من مقاتلي الفرس؛ والتي كان وقع خبرها شديداً على ملك الفرس الفرس لانتصار المسلمين فيها وأسرهم آلافاً من الفرس الذين سيقوا إلى بلاد المسلمين.
فلما وصلت أخبار تلك الهزائم المتتالية والخسائر الفادحة إلى الفرس قرروا الاستعانة بحلفائهم من القبائل العربية الموالية لهم من سكان المنطقة وبالأخص بني بكر بن وائل، فأمر ملك الفرس أردشير بتجهيز جيشين كبيرين: الأول بقيادة أندرازغر والثاني بقيادة بهمن جاذويه، بدأت القوات بالتجمع والاحتشاد في العاصمة قطيسيفون (قرب بغداد اليوم المعروفة تاريخياً بالمدائن) قادمة من كل المدن والحاميات باستثناء قوات حرس الحدود مع الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وسلك كل جيش منهما طريقاً مختلفاً عن الآخر.
وخلال أيام قليلة كان الجيش الأول مستعداً، واستطاع قائده جمع أعوان وقادة وجند من العرب والفرس في طريقه، ولمّا رأى الحشد الكبير الذي جمعه أصابه الغرور لدرجة عدم انتباهه للخطة العسكرية التي بناها خالد، فقد توقَّع سير المسلمين مع نهر الفرات إلى شمال غرب العراق لعلمه أن العرب يتحركون قرب الصحراء للفرار إليها فيما لو هزموا، لذا اختار الفرس منطقة الولجة للحرب (وكانت تقع جنوب الحيرة) لاعتقاده أن خالداً سيتوقف فيها حتماً، ولثقته أيضاً بأنه سيدمر جيشه فيها. وصل جيش أندرازغر العاصمة، ثم تقدم على طول الضفة الشرقية لنهر دجلة وعَبَرَه، ثم انتقل لنهر الفرات فعبره وعسكر في الولجة حيث من المخطط أن يلحق به الجيش الثاني قريباً، ولكن الجيش الثاني غيَّر مساره.
جيش المسلمين: عموماً تكوَّنت معظم جيوش المسلمين في فتوحات العراق من المتطوعين للجهاد في سبيل الله كالمجموعات التي كانت مع المثنى بن حارثة على سبيل المثال، ولمعركة الولجة بنى خالد شبكة استخبارات من العرب المحليين المُعادين للفرس وكلَّفهم بنقل الأخبار إليه، فوصلته الأنباء عبرهم حول ضخامة الجيش الفارسي المتجه للولجة. فلم يجد بداً من خوض المعركة فيها، فانطلق إليها بجيش قوامه 15,000 مجاهد.
مناورة خالد القتالية: كانت أعداد كبيرة من الفرس قد فرت من المعارك السابقة وعادت مجدداً لقتال المسلمين فانضمت فلولهم إلى جيش أندرازغر. أراد المسلمون مواجه الجيشين باستراتيجية وتكتيك عبقريَّيْن: اما الاستراتيجية فقد عزم خالد على مهاجمة الجيش الأول بسرعة خاطفة للقضاء عليه، ثم مهاجمة الجيش الثاني قبل وصولهما أرض المعركة، وكان تكتيك خالد الإحاطة بجيش الفرس أثناء القتال والانقضاض عليه وتدميره من الأمام والخلف فيما يشبه الكمّاشة، وفائدة ذلك منع جنود العدو من الهروب وتضييع فرصتهم بإعادة تنظيم صفوفهم والتسلح للرجوع ثانية لقتال المسلمين.
ولتحقيق هذه المناورة أمر خالد ضرار بن الأزور رضي الله عنه في ليلة المعركة بأخذ جزء من خيالته والالتفاف حول الهضبة. ووجّه سويداً بن مقرن رضي الله عنه لمراقبة وحراسة المعابر التي قد يمر منها الفرس، ولتنبيهه في حالة وجود إمدادات عسكرية جديدة قادمة للعدو.
وكان خالد قد عين على جناحي الجيش الذي سيواجه جيش العدو (الميمنة والميسرة) كلاً من عاصم بن عمرو التميمي وعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنهما وسيكون هو في المقدمة، تألف معظم هذا الجيش من المشاة مع عدد قليل من الفرسان، وقد استغرب الفرس قلة عدد جيش خالد، فكانوا يتوقعون أنه أكبر بكثير مما بدا عليه.
وبعث خالد كلاً من بُسر بن أبي رُهم الجهني وسعيد بن مرة العجلي رضي الله عنهما على رأس قوتين تتألف كل واحدة منهما من ألفي فارس ليتسللوا ليلاً إلى الجنوب من الخطوط الخلفية لجيش الفرس بحيث يخفيان الفرسان خلف التلال ليكونا على أهبة الاستعداد للتحرك خلال فترة قصيرة، ويكلفان عدداً من المراقبين لانتظار إشارة خالد، فعندها ستهاجم كل مجموعة منهما أحد جناحي الجيش الفارسي من الخلف، ويُطْبِقون عليه في الوقت المناسب، وفي ذات الوقت سيكون لهاتين الفرقتين دور أساسي فاعل في إعطاء خالد إنذاراً مبكراُ في حال وصول أية قوات من الجهات التي لا يمكنه تغطيتها بقواته المهاجمة.
صدرت الأوامر اللازمة من خالد لمن كان يجب أن يعرف هذه الخطة لتنفيذها حتى يتسنى لهم تنظيم وتحضير قوات الضربة دون حدوث أي توقف وبسرية تامة، لذا لم يتم إعلام بقية المقاتلين المسلمين شيئاً عن هذه المناورة وتفاصيلها. وشكَّل خالد جيشه بالعشرة آلاف المتبقية قبالة الجيش الفارسي.
أرض المعركة: كانت سهلاً شاسعاً ممتداً بين هضبتَيْن لمسافة ميلين (أكثر من ستة كيلومترات) ثم يتداخل بعدها السهل مع صحراء قاحلة، فرأى خالد أنها تصلح للمناورة والالتفاف، فقرر أن يهجم من ثلاثة محاور ليشتت الحشد الفارسي الضخم، وأمر سويد بن مقرن البثاء بالحفير (شمال غرب السعودية اليوم) لتأمين مؤخرة جيشه وخطوط إمداده الخلفية.
سير المعركة: ولأن القائد الفارسي أندرازغر كان مغروراً وواثقاً من النصر لم يكلف نفسه بالانسحاب إلى ضفة النهر، وكانت هذه الخطوة ضرورية ليتمكن من استخدام النهر في حماية جيشه، لكنه بدلاً من ذلك نشر جيشه في وسط السهل الشاسع، وكان مواجهًا للشرق وللجنوب الشرقي، وفي الجنوب الغربي كانت وراءه التلال.
اعتمدت إستراتيجية أندرازغر قائد الفرس على الدفاع وترك المسلمين يهاجمون أولاً، ثم بعد أن يمتص هجمتهم يشرع في هجوم مضاد لإيقاع الهزيمة بهم. وبالفعل جرى القتال بين الجيشين على مراحل، تمت المرحلة الأولى من المعركة وفق خطة أندرازغر، وكانت الغلبة في هذه المرحلة للمسلمين، حيث كان خالد قد أمر جيشه بشن هجوم عام فهاجموا الفرس حتى تعبوا وهم أقل عدداً منهم بكثير.
وقد أبقى خالد قواتٍ احتياطية بقيادة ضرار ليشركها في الوقت المناسب بعد أن يكون قد بلغ بالمسلمين التعب مبلغه مما سيتيح له التحكم في المعركة. وفي هذه الأثناء بارز خالد بطلاً فارسياً عملاقاً يطلق عليه هزار مارد وقتله وهو الموصوف بأنه الفارس الذي يعدل ألف رجل، فكان هذا نصراً نفسياً للمسلمين.
بدأت المرحلة الثانية من المعركة بهجوم جيش الفرس بعد أن رأى أندرازغر علامات التعب على الجنود المسلمين، فظن أن هذه اللحظة المناسبة للهجوم المضاد عليهم، فهاجم سلاح فرسانه مقدمة جيش المسلمين، فحاول المسلمون صدهم لبعض الوقت لكن الفرس زادوا الضغط فتراجع جيش المسلمين وفق الخطة المرسومة، وهنا أعطى خالد الإشارة لفرقتَيْ الفرسان الرابضة خلف التلال لمهاجمة مؤخرة الجيش الفارسي وجناحيه والالتفاف من خلفها، وفي ذات الوقت استأنف مشاة جيش المسلمين بقيادة خالد الهجوم على الجبهة الفارسية ومقدمتها واتصل بفرقتي الفرسان فاحاطوا بالفرس إحاطة تامة من الأمام ومن الخلف.
وهكذا أصبح الجيش الفارسي مضغوطاً في مساحة ضيقة مما أعجز جنوده عن استخدام أسلحتهم بحرّيّة وأريحيّة، وأيضاً لم يتمكنوا من تجنب ضربات المهاجمين فاضطربوا في كل اتجاه وتفرّقوا، وواصلت القوتان الكامنتان وراء التلال البعيدة من خلفهم محاربة الجناحين، وبذلك لم يشهد أحد منهم مقتل صاحبه.
انتهت المعركة بانتصار ساحق للمسلمين وبهزيمة مدوية للفرس، وحلت بجيشهم خسائر فادحة، وفرت بضعة آلاف من جنوده، واستطاع قائد الجيش أندرازغر نفسه الفرار برفقة جمع من أصحابه، وبدل فرارهم باتجاه نهر الفرات فروا باتجاه الصحراء العربية التي هلكوا فيها عطشاً.
كانت معركة الولجة أطول وأشرس المعارك التي خاضها المسلمون في أثناء فتوح العراق، وتلتها عدة معارك أخرى هزم فيها الفرس شر هزيمة مثل معركة أُلَّيْس (أو نهر الدم) وفتح الحيرة والأنبار ومعركة عين التمر ومعركة الفِراض، وكلها مهدت لمعركة القادسية التي كانت بين يديْ فتح باقي بلاد فارس كلها والقضاء على إمبراطورية الفرس نهائياً كما بشَّرنا بها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة صحيحة منها حديث الصحابي جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال { لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ من المسلمين (أو من المؤمنين) كنزَ آل كسرى الذي في الأبيض } رواه مسلم، وقد حدث هذا فعلاً بعد معركة القادسية وذلك مصداقاً لما رواه الصحابي عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له {ولئن طالتْ بك حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كنوز كسرى، قلتُ كسرى بن هُرْمُزَ ؟ قال كسرى بن هرمز}
رواه البخاري