الجمعة يوليو 5, 2024
بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: نتائج غزوة أحد المؤلمة للمسلمين

قال الله سبحانه وتعالى

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}

آل عمران 173-174،

     بعد نتائج غزوة أحد المؤلمة للمسلمين، وبسبب مصابهم الأليم فيها ظن أعداؤهم أنهم أصبحوا لقمة سائغة لهم فحاولوا النيل منهم ومن هيبتهم، ومن صور ذلك فاجعة بئر معونة، وتتلخص بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل مع البراء بن عامر سبعين من خيرة أصحابه يدعون أهل نجد إلى الإسلام، فلما وصلوا بئر معونة غدر بهم عامر بن الطفيل من بني عامر واستنهض ضدهم قبائل بني سليم فقتلوهم فاستشهدوا جميعاً، ونجا منهم واحد فقط هو عمرو بن أمية الضمري، فعاد إلى المدينة المنورة، ولقي في طريقه رجلين ظنهما من بني عامر فقتلهما ثأراً لأصحابه، فتبين أن لهما عهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

     بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع دية القتيلين، فتوجه إلى يهود بني النضير يستعينهم فيها حسب الميثاق الذي بينه وبينهم، فتعرض هناك لمحاولة اغتيال منهم لولا ان الله سبحانه وتعالى كشف له ذلك، فعاد من فوره إلى المدينة وتبعه من كان معه من الصحابة، ولكنه صمم على مقاتلتهم لنقضهم العهد معه، فأرسل إليهم يأمرهم بالجلاء وأمهلهم عشرة أيام، لكنهم لم يستجيبوا بتحريض ابن أبي السلول زعيم النفاق في المدينة، فتوجه صلى الله عليه وسلم بجيشه فحاصرهم خمس عشرة ليلة، أدركوا معها أن لا مفر لهم من الجلاء، فخرجوا من حصونهم وتوجه بعضهم إلى الشام وبعضهم إلى خيبر، فنزلت سورة الحشر بكاملها تفصّل هذه الأحداث، قال تعالى

{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}

الحشر 2.

     وممن توجه إلى خيبر زعيم بني النضير حيي بن أخطب، فبدأ جولة شملت القبائل الناقمة على الإسلام والطامعة فيه يؤلبها ضده، وأغرى قريشاً بتأكيد الأحبار أن دينها أفضل من دين محمد وأنها أولى بالحق منه، قال تعالى

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}

النساء 51-52،

افتراء ينطوي على هدف سياسي خبيث.

     نجح وفد بني النضير في مهمة استنفار القبائل لقتال المسلمين، فاستجابت قريش وأحلافُها وخرجت بجيش قوامه أربعة آلاف مقاتل بقيادة أبي سفيان، واستجابت غطفان وقبائلها وبنو سليم وبنو أسد فخرجوا بجيش مشترك قوامه ستة آلاف مقاتل لكل قبيلة قائدها، جيش كثيف خرج باتجاه المدينة المنورة وعسكر حولها.

     تابعت الاستخبارات العسكرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحركات حيي بن أخطب والوفد الذي رافقه، وعلم بخروج الأحزاب إلى المدينة والأماكن التي عسكروا فيها، فجمع أصحابه للتشاور، فانتهوْا إلى الرأي بحفر خندق حول المدينة ففعلوا وأكملوا حفره وسط ظروف قاسية وصعوبات كبيرة، وشاركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفره مما شجعهم على العمل والتفاني فيه،

     وبعد تأمين النساء والأطفال والصبيان والضعفاء في أحد الحصون القوية في المدينة حماية لهم وحفاظاً على معنويات المقاتلين وضمان طمأنينتهم على أهليهم ووضع من يحميهم فيما لو تعرضوا للهجوم، بعد هذا التأمين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس ثلاثة آلاف من المقاتلين وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل اللواء، فجعل ظهورَهم إلى جبل سلع فتحصنوا به، وجعل الخندق بينهم وبين الأحزاب،

     جيوش ضخمة رؤيتها تدب الرعب في النفوس والصدور، أما عباد الله الثابتون فلا تتزعزع صدورهم بمثل هذه الجموع ليقينهم أن الله معهم، فقد قال تعالى عنهم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا ً شَدِيداً}

الأحزاب 9 -11

     فلما أراد المشركون مهاجمةَ المسلمين واقتحامَ المدينة وجدوا أمامهم خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فكانت مفاجأة مذهلة لهم أبطلت خطتهم التي رسموها فوقفوا أمامه غاضبين وعاجزين، فالْتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين وتضييق الخناق عليهم، ولكن المؤمنين يجابهون هذه الشدة واثقين بوعد الله الصادق، قال تعالى

{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيماً}

الأحزاب 22.

     أما المنافقون المرجفون ومرضى القلوب من الطابور الخامس فقد أظهروا دورهم السلبي المعتاد منهم في المعارك منذ البداية، واستمروا في تثبيط المؤمنين بكل السبل، وهذا ما عهدناه منهم في كل مرة، رأيناهم في غزوة أحد وفي غزوة تبوك وغيرهما من مواطن الجهاد، فبعضهم استأذنوا بالعودة إلى بيوتهم بأعذار واهية وكاذبة، وبعضهم انسحب من مواقعهم خِلْسَةً وعادوا إلى المدينة المنورة، قال تعالى فيهم

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}

الأحزاب 12-13،

وقد نعى الله عليهم هذا الجزع فقال تعالى

{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً}

الأحزاب 16.

     كان يوم الأحزاب امتحاناً صعباً لأعصاب المسلمين وثباتهم، فبالحصار صاروا وكأنهم بين فكي الكماشة أو كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق، فجيوش الأحزاب أكثر من عدد سكان المدينة، لكنهم أدركوا ما يتهددهم وما يحدق بهم من أخطار ومؤامرات، فقرروا المرابطة في مكانهم ورمي من يقترب من الخندق بالنبال إذا حاولوا عبوره أو ردمه،

     أما فرسان قريش الذين وقفوا أمام الخندق عاجزين فقد بدأ بضع أفراد منهم بالطواف حوله يبحثون عن مكان ينفذون من خلاله، فوجدوا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه، فأسرع فرسان المسلمين يسدون هذه الثغرة بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتل عمرو بن عبد ودّ العامري وهو من أقوى فرسان قريش، فهربت خيل المشركين بفرسانها منهزمة، وتوجهت كتيبة نحو مكان الرسول صلى الله عليه وسلم فقاتلها المسلمون ببسالة فعادت أدراجها مهزومة خائبة.

     وفي هذا الوقت الحرج جاءت الأخبار بأن بني قريظة نقضوا عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وانضموا إلى الأحزاب، فقد استطاع حيي بن أخطب بعد جهد إقناع زعيمهم كعب بن أسد وتزيين الغدر له بأن قبائل العرب جاءت مصممة على استئصال محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودينه وأتباعه، فمزق بنو قريظة صحيفة العهد، وحاول سعد بن عبادة تذكيرهم بعهدهم فلم يستمعوا له، فاشتد البلاء على المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم {الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره} رواه البيهقي

     واستمر الحصار أكثر من عشرين ليلة عصيبة، لا يوماً ولا يومين ولا أسبوعاً ولا أسبوعين، ورأى رسول الله ما بالناس من شدة البلاء والكرب وقد جاءوه يسألونه {هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، قال نعم: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، فضرب الله عز وجل وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم الله عز وجل بالريح} رواه أحمد، ثم إنه صلى الله عليه وسلم {انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: أيها الناس لا تَمَنَّوْا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم} رواه البخاري.

     بذل المسلمون جهدهم في الدفاع عن رسالتهم ونبيهم ومدينتهم وهنا تدخلت العناية الربانية لتحطم الظلم وأربابه والباطل وزعماءه، فالأعراب ضاقوا ذرعاً بوضعهم البائس، فالأيام تمر عليهم طويلة ولا يستطيعون معها النيل من المسلمين، فقد استنفدت قواهم وما زالوا أمام خندق صعب الاجتياز وجبال عصيَّة الصعود، بدأ الجو بالتغير: هبت رياح باردة قوية، واغبرت الأجواء من حولهم.

     ووسط هذه الظروف بدأت سفارة الصحابي نعيم بن مسعود رضي الله عنه الذي أسلم حديثاً ولكن لم يعلم أحد بعد بهذا الخبر، فقد ورد في السيرة النبوية أن نعيماً أفسد العلاقة بين الأحزاب، ونجح في إقناع كل فريق منهم على حدته وبسرية تامة بطلب الرهائن من الأطراف الأخرى، وهذا جائز لقوله صلى الله عليه وسلم {الحرب خدعة} رواه البخاري، فلما نفذوا مشورته سرت الشكوك فيهم فانهار حلفهم وتفكك وتشتت جمعهم وانقلبوا على بعضهم.

     وفي آخر ليلة من الحصار اشتدت الرياح العاتية على الأحزاب فاقتلعت خيامهم وأطفأت نارهم وقلبت قدورهم، وهي حقاً معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرياح لم تصب المسلمين وهم قريبون من الأحزاب لا يفصل بينهم إلا الخندق وعرضه أقل من خمسة أمتار، بل كانوا في عافية منها ولا خبر عندهم بها، فانفضَّت جيوش الأحزاب وحشودهم وأولهم قريش بقرار من قائد الجيش أبي سفيان، وعادت إلى ديارها تجر ذيول الهزيمة والاندحار، فأصبح المسلمون فلم يجدوا أحداً، فتمت نعمة الله عليهم وعادت الطمأنينة إليهم، وهنا قال صلى الله عليه وسلم {لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده}، وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أحوجنا إلى الدعاء والصبر والثبات واليقين بالنصر، وما النصر إلا صبر ساعة.

     ورسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكة {خطب في الناس فكبر ثلاثاً ثم قال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده} رواه أبو داود، ويوم الفتح لا يقل أهمية عن نصر يوم الأحزاب.

     وقد استحسن كثير من العلماء ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله إضافة هذه الكلمات إلى تكبيرات العيدين، فقد كان النصر يوم الأحزاب حقاً كيوم عيد.

Please follow and like us:
د. تيسير التميمي
قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب