د. تيسير التميمي يكتب: {… ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}
أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، أمة مجاهدة في سبيل الله لنشر دينه في أرضه، ولإزالة كل قوى الكفر والشر التي تحول بينها وبين مهمتها السامية هذه، أدرك ذلك المؤمنون كلهم وأولهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم والتابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا، فانطلقوا في مهمتهم المباركة حكاماً وأمراء وقادة وجنوداً وفاتحين، وفي معركة ذات السلاسل تجلت عظمة أسلاف هذه الأمة وعبقرية قياداتها السياسية والعسكرية منذ فجر تاريخها.
معركة ذات ٱلسَّلَاسِل أو كَاظِمَة أو معركة القيود وقعت في شهر المحرم من السنة الثانية عشرة للهجرة النبوية المشرفة، أي بعد بضعة شهور من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقعت على أرض كاظمة (شمال الكويت حالياً) بين جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وجيش الفرس بقيادة هرمز، كانت أولى المعارك التي دارت في عهد الخلفاء الراشدين ضد الدولة الفارسية.
أخمد أبو بكر حركة الردة التي ظهرت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقضائه على هذه الفتنة في مهدها فقد أمَّن جبهته الداخلية، وبذلك أصبح الظرف مواتياً لتأمين جبهته الخارجية بحماية أطراف دولته، ولمواصلة المهمة الكبرى التي تقع على عاتقه بنشر دين الله، وكانت البداية بدولة الفرس، ربما لقوتها وشدة بأسها وربما لكفرها، وهنا نستذكر حُزْنَ المسلمين لما هُزِمَ الروم في معركتهم مع الفرس فنزل قوله تعالى {الم * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّن بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ * فِي بِضۡعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * بِنَصۡرِ ٱللَّهِ…} الروم 1-5، وفي ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما {… كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب…} رواه الترمذي، فرح المؤمنون بنصر الروم المؤمنين على الوثنيين، ولكن هل فرح الروم يوماً بنصر المسلمين المؤمنين على الفرس أو على غيرهم من الكفار؟
ومما سرَّع المواجهة مع الفرس أن الصحابي المثنى بن حارثة رضي الله عنه قدم إلى أبي بكر بعد الانتهاء من حروب الردة فقال له [يا خليفة رسول الله: ابعثني على قومي فإن فيهم إسلاماً أقاتل بهم أهل فارس وأكفيك أهل ناحيتي من العدو] فأذن له أبو بكر وكتب له بذلك عهداً. واصل المثنى شنّ الغارات على الجيوش الفارسية، ثم طلب من أبي بكر المدد بقوله [إن أمْدَدْتَني وسمعتْ بذلك العرب أسرعوا إليَّ وأذلَّ الله المشركين، مع أني أخبرك أن الأعاجم تخافنا وتَتَّقِينا] فكتب أبو بكر لخالد بن الوليد يأمره بإمداد المثنى ومتابعة غزواته، وكتب إلى المثنى يأمره بطاعة خالد.
تضمنت أوامر أبي بكر لخالد بالتوجه إلى العراق عدم إكراه أحد من المسلمين على مواصلة المسير معه، ومن أحب الرجوع بعد قتال المرتدين فلْيرجعْ، فعاد كثيرون إلى ديارهم بعد ما لاقوه من تعب وإرهاق شديدين في حروب الردة التي استمرت ما يقرب من عام، وتضمنت الأوامر أيضاً ألاَّ يستعين بمن ارتد عن الإسلام وعاد إليه، وأن يستصحب كل امرئ مر به من المسلمين من يرغب منهم بذلك، ثم إن أبا بكر شرع بتجهيز السرايا والبُعوث والجيوش إمداداً لخالد في مهمته، فأنطلق خالد إلى العراق بجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل وانضم إليه ثمانية آلاف كانوا مع المثنى ليصبحَ عدد الجيش الإسلامي ثمانية عشر ألف مقاتل،
وضع أبو بكر خطة عسكرية ذكية حيث أمر خالداً بالهجوم على العراق من جهة الجنوب، وفي ذات الوقت أمر عَيَّاضاً بن غنم الفهري بالهجوم من الشمال ثم قال لهما [من وصل منكما أولاً إلى الحيرة واحتلها فهو الأمير على كل الجيوش بالعراق]، وأثناء التوجه إلى العراق فرَّق خالد جنده ثلاث فرق ولم يحملهم على طريق واحدة أو زمان واحد، فبعث المثنى قبله بيومين ودليله ظَفَر، وبعث عديَّاً بن حاتم وعاصماً بن عمرو ودليلاهما مالك بن عَبَّاد وسالم بن نصر أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد يعني في آخرهم ودليله رافع، فواعدهم الحفير ليجتمعوا به ويقاتلوا عدوهم.
وأول مدينة وصلها خالد هي الأُبُلَّة (البصرة حالياً)، وأثناء مسيره هذا وفتوحاته لم يكن خالد يتعرض لمن لم يقاتل من الفلاحين ولا لأولادهم بل للمقاتلين من الفرس فقط. ولمدينة الأبلة أهمية استراتيجية للفرس، فهي ميناؤهم الوحيد على الخليج العربي، ومنها تأتى كل الإمدادات للحاميات الفارسية المنتشرة بالعراق، ويقودها أمير فارسي كبير الرتبة اسمه هرمز، ولمكانته أُطْلِقَ اسمه على المضيق الواقع على الخليج العربي، وهو رجل متكبر شديد البغض للمسلمين وللعرب، وكان العرب بالعراق يكرهونه بشدة ويضربون به الأمثال فيقولون: أكفر من هرمز، أخبث من هرمز،
وعندما وصل خالد بجيشه بعث كتاباً إلى هرمز يخيّره بين الإسلام والجزية والحرب، ونصه [أما بعد فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك ولقومك الذمة أو أَقِرَّ بالجزية وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فلقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة] وهذا أصدق وصف إيماني لجند الإسلام، فهو الذي زرع الهيبة منهم في قلوب أعدائهم، أما اليوم فقد زال هذا الوصف عن معظم المسلمين اليوم، وهذا ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله {يوشك الأمم أن تَداعى عليكم كما تَداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفَنَّ الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت} رواه أبو داود، ومعنى تًداعى عليكم أي يدعو بعضُهم بعضاً للاعتداء عليكم، ومعنى الموت في الحديث النبوي وفي كتاب خالد هو الموت والشهادة في سبيل الله.
رفض هرمز كتاب خالد واختار الحرب ولم يعلم أنه اختار بيده مصيره المحتوم، وأرسل إلى كسرى في المدائن يطلب منه الإمدادات فأجاب كسرى طلبه، فاجتمع لديه جيش جرار عظيم التسليح يضم ثمانين ألف مقاتل أراد هرمز مقاتلة المسلمين بهم، خطط هرمز للهجوم على مدينة كاظمة (وتقع على الخليج العربي في الكويت حالياً) ظناً منه أن المسلمين سوف يعسكرون هناك، وانطلق فلما أقبل إلى الكاظمة وجدها خالية، وأخبره جواسيسه بتوجّه المسلمين إلى الحفير إلى الشمال الغربي من الكاظمة، فتوجه هرمز بسرعة كبيرة جداً إلى الحفير حتى يسبق المسلمين، فوصلها قبلهم واستعد للقتال وحَفَر الخنادق وعبأ جيشه، ولكنه فوجئ بمناورة ذكية لخالد أرهقت الجيش الفارسي؛ حيث غيَّر مساره وتوجه إلى الكاظمة فعسكر فيها بجيشه ليستريح الجنود المسلمون قبل القتال، أراد خالد بذلك استغلال نقطة ضعف جيش الفرس وهي ثقل أسلحته مما يجعل تحركه بها مُجهداً لجنوده.
وصلت هذه الأخبار إلى هرمز فغضب وتوترت أعصابه، وتحرك بجيوشه المرهقة عائداً إلى الكاظمة ليستعد لقتال المسلمين، ولكنه استطاع أن يسيطر على منابع الماء بجعل نهر الفرات وراء ظهره حتى يمنع المسلمين منه، فاشتكى الجند المسلمون هذا الحال لخالد الذي قال لهم [جَالِدُوهم حتى تُجْلُوهم عن الماء] وقال تحفيزاً لهم [انْزِلُوا وحُطُّوا رِحَالَكم، فَلَعَمْرِ الله لَيَصِيرَنَّ الماءُ لأَصْبَرِ الفريقَيْن وأكرمِ الجُنْدَيْن]، وبعث الله تعالى سحابة فأمطرت المسلمين حتى صار لهم غُدْرَان من ماء ففرحوا بذلك وقويت عزيمتهم، فازدادت حميتهم وحماستهم للقتال.
أرسل هرمز إلى كسرى يخبره بالوضع الجديد، فأرسل إليه كسرى للمرة الثانية إمدادات كبيرة يقودها قارن بن قرباس، وكلفها بالحِفاظ على مدينة الأبلة في حالة هزيمة هرمز أمام المسلمين، وأمر هرمز جنوده أن يربطوا أنفسَهم بالسلاسل حتى لا يفروا من أرض المعركة كناية عن مواصلة القتال حتى الموت، وضمَرَ هرمز في نفسه المكر لخالد فقد وصلته أخبار شجاعته وإقدامه، ومعلوم له أن قوة الجيش الإسلامي من قوة قائده، لذا فقد طلبه للمبارزة كما هو معتاد وقتها أيام الحروب بأن يبدأ قادة الجيشيْن الحرب بالمبارزة، وما علم هرمز أنه سيكون أول وقود هذه المعركة.
اتفق هرمز مع مجموعة من فرسانه على مهاجمة خالد والفتك به أثناء المبارزة، فالغدر من أبرز صفات معظم أهل الكفر، بدأت المبارزة، وقبل قيام مجموعة هرمز بخطتهم الإجرامية خرج أحد الأبطال المسلمين الشجعان وهو القعقاع بن عمرو التميمي من بين الصفوف مسرعاً وانقضَّ عليهم فقتلهم جميعاً، وفي ذات الوقت صرع خالد هرمز وأجهز عليه، والقعقاع بن عمرو هذا هو الفارس الذي أمدَّ أبو بكر به جيش خالد، ولمَّا قيل لأبي بكر أَتَمُدُّ خالداً برجل واحد؟ فقال [لا يُهزَم جيش فيه القعقاع بن عمرو] وقال عنه أيضاً [صوتُه في الجيش خيرٌ من ألف رجل].
كان وقع هذه البداية السيئة شديداً على نفسيات الفرس مما أثَّر سلباً في معنوياتهم، فانفرط عقدهم وانحل نظامهم لمقتل قائدهم وحاميته، في هذه الأثناء اشتدّت أحداث معركة كاظمة والْتحم الفريقان واستعَرَ بينهما القتال، وكان هجوم المسلمين شرساً على جنود جيش الفرس الذين استولى عليهم الرعب والخوف، ولاحقهم المسلمون وقتلوا منهم أكثر من ثلاثين ألفاً، وغرق كثير منهم في نهر الفرات، ومن يغرق منهم كان يجر معه بواقي سلسلته فقتل المُرَبَّطُون بالسلاسل جميعاً، ومن لم يُقْتَلوا أو لم يغرقوا ولَّوْا الأدبار وفَرّوا إلى الأبلة ومنهم القائدان قباذ وأنوشجان قائدا الميمنة والميسرة لجيش الفرس، فلم تنجح فكرة تربيط الجنود بالسلاسل بل إنها زادت عدد القتلى، ومع فشلها إلا أن الفرس لم يعتبروا فعادوا لاستخدامها في معاركهم التالية كما في معركتَيْ القادسية ونهوند، فالثبات في القتال هو ثمرة إيمان المرء بقضيته
لم تنته فصول المعركة عند هذا الحد، فلما فر باقي الجيش الفارسي اتجهوا إلى مدينة الأبلة للانضمام إلى الجيش المرابط فيها للدفاع عنها في حال هزيمة جيوش هرمز، وصلت فلول المنهزمين من جيش الفرس وقلوبهم مليئة بالفزع فانضمت إلى جيش قارن بن قرباس المكلف بحماية مدينة الأبلة، وأخبروه بصورة الأمر وكان رأيهم البقاء داخل المدينة والتحصن بها، لكنه أصر على الخروج من المدينة لملاقاة المسلمين عند منطقة المَذَار (شط العرب حالياً) الواقعة على ضفاف نهر الفرات حيث كان قد أعد أسطولاً من السفن استعداداً للهرب لو كانت الدائرة عليه.
نقل رجال الاستخبارات لخالد بن الوليد أن الفرس معسكرون بالمذار، فأرسل للخليفة يعلمه بتحركه إليها لضرب المعسكرات الفارسية فيها، وانطلق خالد إليها بأقصى سرعة، وأرسل قبله طليعة من خيرة الفرسان على رأسها أسد العراق المثنى بن حارثة، فوصلوها بسرعة غير متوقعة، وبدأت المرحلة الثانية من المعركة.
تفحَّص خالد معسكر الفرس فلمس الفزع يملأ قلوبهم وبالأخص عندما رأى سفنهم راسية على ضفاف الفرات مجهزة للهروب، وعندها أمر خالد المسلمين بالصبر والثبات في القتال، وخرج قائد الفرس قارن وطلب المبارزة من المسلمين فخرج له خالد بن الوليد وأعرابي من البادية لا يعلمه أحد اسمه معقل بن الأعشى، وسبق هذا الأعرابي خالداً فهجم على قارن وقتله في الحال، وخرج بعده عديد من قادة الفرس للمبارزة: فبارز عاصمٌ بن عمرو شقيق القعقاع القائد أنوشجان فقتله فوراً، وبارز الصحابي عدى بن حاتم رضي الله عنه القائد قباذ فقتله في الحال، وأصبح الجيش الفارسي بلا قيادة.
ومرة اخرى انفرط عقد الجيش الفارسي بعد مصرع قادته، ولكن قلوبهم كانت مشحونة بالحقد والغيظ من المسلمين فاستماتوا في القتال وحاولوا بكل قوتهم صد الهجوم الإسلامي ولكنهم فشلوا في النهاية، وانتصر المسلمون انتصاراً مبيناً وفتحوا مدينة الأبلة، ثم نادى منادي خالد بالرحيل فسار بالناس وتبعته الأثقال حتى نزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وبعث ببشارة الفتح إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
أظهرت هذه المعركة وما تلاها من المعارك الفاصلة الحاسمة في التاريخ الإسلامي الزاهر بأن الله جل ثناؤه سينصر المسلمين نصراً مؤزراً ولن يمكّن أعداءهم منهم، بل إن هذه السُّنّة الربانية لن تتخلف عنهم أبداً ما داموا يمتلكون عوامل النصر وفي مقدمتها قوة الإيمان والثبات والصبر وطاعة الله مصداقاً لقوله تعالى {… وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} النساء 141.