بحوث ودراسات

د. جمال عبد الستار يكتب: لماذا تحج الأمة

يأتي الحج كل عام ليذكّرنا بهويتنا، وليعيدنا إلى فطرتنا، وينادي فينا الأخوة الصادقة في علاقاتنا، والاستجابة لأمر الله تعالى في كل أحوالنا، والصدق في تعظيم شعائر ربنا وخالقنا، ومعاداة الشيطان وحزبه.

وإني أتساءل الآن: إذا لم تحقق الأمة تلك المقاصد، فلماذا تحج؟ لماذا الحج؟ ومن أبرز مقاصده: الاستجابة لأمر الله تعالى، الاستجابة لأمره سبحانه بالمسارعة بتنفيذ ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، تنفيذاً لأمره سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24).

ففي الحج استجابة تتمثل في: طواف هنا، وسعي هنا، ورمي هنا، ومبيت هناك، بضوابط شرعية يتعلّم منها المسلم ضرورة الاستجابة الكاملة لأمر الله تعالى، دون الوقوف عند النظرات المنطقية، ولا الأطروحات الفلسفية، إنما يتعلم من تلك المناسك الكاملة الاستجابة لأمر الله تعالى.

وإني هنا أتساءل: أمتنا الآن، وهي التي تشتاق إلى الحج، وتسعى إليه بكل غالٍ وثمين، هل بالفعل تستجيب لأمر الله تعالى؟ هل أمتنا تستجيب لأمر الله تعالى في التحاكم إلى شرعه في صغير أمورها وكبيرها؟ استجابة لقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ) (المائدة: 49)، وطاعة لأمره تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) (يوسف: 40)، وحذراً من قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44).

الحج يأتي ليذكّرنا بهويتنا وليعيدنا إلى فطرتنا وينادي فينا الأخوة الصادقة والاستجابة لأمر الله تعالى

هل أمتنا تستجيب لأمر الله تعالى وقد أمرها بالجهاد إذا اعتُدي على دينها، أو مالها، أو على نفوسها، أو على أعراضها ونسلها؟ وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم من مات مدافعاً عن واحدة منها بالشهادة، فقال: «من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون نفسه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون أهله فهو شهيد».

تكالب أعداء الأمة عليها، فاعتدوا على كل تلك الضرورات! فهل قامت الأمة بواجب الجهاد العظيم استجابة لأمر الله تعالى؟! هل انتصرت الأمة لمقدساتها؟ هل دافعت عن مسرى رسولها؟!

لماذا تحج الأمة؟

تحج الأمة لتتعلّم الأخوة الصادقة، لتتعلّم أن الأخوة محراب عبادة من أعظم المحاريب، وأوسع الأبواب لتحقيق رضوان الله تعالى، ألم تعلم الأمة أن الله تعالى قد أوقف الثواب الأعظم في الحج على تحقق الأخوة؟ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه».

ونحن نسأل أنفسنا: هل الأمة الآن تتحقق بتلك الأخوة الصادقة، وهي التي تعلّمت في الحج أن تتخلى فيه عن كل دواعي التفاضل في ملابسها، وزينتها، وعطرها، وشعاراتها؛ لتكون متحققة بالأخوة الكاملة، انطلاقاً من قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)؟

هل تلك الأخوة تتحقق في أمتنا الآن؟! ونحن على أبواب الحج، هل الأخوة تتحقق مع إخواننا في غزة الذين يستصرخون الأمة ليل نهار؟ إنهم يجوعون، ويُدَمَّرون، ويُهجَّرون، ويُحرَقون على مرأى ومسمع الأمة بأسرها! فأين تلك الأخوة؟ أين الأمة من قوله صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى»؟ أين الأمة من الأخوة، حيث يجوع المسلمون في غزة وفلسطين، ويُحاصرون، فلا مغيث، ولا مجيب، بل يُضيَّق على من يحاول المسارعة بالغوث ومدّ اليد للملهوفين المظلومين؟ فأين تلك الأخوة؟!

ثم، تحج هذه الأمة تعظيماً لشعائر الله تعالى، فهي تُعظِّم الكعبةَ البيت الحرام، وتعظِّم السعي، والطواف، والهدي، وسائر المناسك، تحقُّقاً بقول الله تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32).

المسلمون يحجون ليجددوا البيعة مع دينهم وانتسابهم لخندق المسلمين بموالاة المؤمنين ومعاداة أعدائهم

وإني أسأل هذه الأمة التي تعظِّم شعائر الله تعالى، أليس من شعائر الله التي يجب أن تُعظَّم: حمايةُ المسجد الأقصى، وتطهيره من دنس الصهاينة المعتدين؟! أليس هذا من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أليست هذه القبلة الأولى للمسلمين؟! فإذا لم تُعظّم الأمة شعائر ربها، فأنّى لها أن تتحقق بمفاهيم الحج؟!

إن تعظيم الشعائر ليس محصوراً في حجم الحصاة التي نرمي بها الشيطان، وليست كذلك في الشعرة التي وقعت من رأس الحاج عَرَضاً، ولا في حجم المسؤولية عن دم النملة التي جاءت تحت قدمه! فتعظيم شعائر الله يتمثل في حفظ دماء المسلمين، والمسلم الذي يُقتل ويُقصف وتُهدر كرامته وقيمته، ويُهجرّ من داره، أعظم من تلك الكعبة التي نطوف بها، فهذا ما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم إياه حين قال للكعبة: «ما أعظمتك وأعظم حرمتك، ولحرمة المسلم أعظم عند الله منك»!

ثم، لماذا يحج المسلمون؟ يحج المسلمون ليجددوا البيعة مع دينهم، وكتاب ربهم، وسُنة نبيهم، وصدق انتسابهم لخندق المسلمين بموالاة المؤمنين، ومعاداة الكفار من شياطين الإنس والجن، إنهم يحجون ليتعلموا مصارعة الشيطان؛ حيث يتعلمون رَجْمَه، وإعلان المعادة والمفاصلة له ولحزبه.

وإني أتساءل: هل أمتي تعادي وتحارب الشيطان؟! وللأسف فإن واقع أمتي يقول: إن الشيطان قد تبوأ منصب القيادة في الأمة! إنها تتحالف مع الشيطان، فتطبع معه العلاقات، وتتواصل معه بكل أنواع التواصل، والود، والهبات، والعطايا! بل وربما يتآمر بعضها معه على قتل المسلمين! وحصار المجاهدين، والاعتداء على الآمنين.

تعظيم شعائر الله يتمثل في حفظ دماء المسلمين الذين يُقتلون ويُقصفون وتُهدر كرامتهم ويُهجَّرون من ديارهم

الأمة لا تحارب الشيطان، بل تتحالف مع الشيطان، بل تنفذ مخططاته، وتتسابق معه في حصار المجاهدين والمقاومين، وشيطنة الذين يدافعون عن القدس ويحاربون من أجل المسجد الأقصى! إن التحالف الشيطاني في العالم يدل على أن الأمة لم تتعلم شيئاً من مناسك الحج، وأن السواد الأعظم منها يسعى إلى الحج بمعزل عن تحقيق مقاصده!

ثم، لماذا نحج؟ يأتي الحج ليذكرنا بأننا أمة، لسنا مجرد أقاليم، وأعلام، وأفخاذ، وألوان، وأجناس، بل إننا أمة، ولسنا أي أمة، نحن خير أمة قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، نحن أمة شاهدة، أمة صاحبة الشهود الحضاري على البشرية كلها، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).

هذا التعظيم للأمة، وتلك المكانة لها، التي نتعلمها ونتذكرها في الحج، أتساءل متألّماً: هل نحن نتحقق بمكونات الأمة، ونؤدي مهام الأمة، ونتخلق بأخلاق الأمة وقيمها، وتراحمها، وتعاطفها؟!

للأسف الشديد، تقطعت الأوصال، وتنوّعت الرايات، وتعدّدت المسميات، وتنازع الناس، وتركت الأمة بعضاً منها تُسفك دماؤهم، وتُسلب أموالهم، ويُهجَّرون من ديارهم، على مرأى ومسمع العالم بأسره! وأمة الخير والأخوة منشغلة في ملاعبها ولهوها، وصناعة الملاهي، والملاعب، والحفلات، والزيارات، والمناسبات!

إن الأمة غابت عن معاني الحج، وتحتاج إلى أن تعود فتتعرف على كونها أمة، ساعتها سيكون للحج أثر مختلف، ويكون للعبادات آثار مختلفة، أما إذا لم نفهم مقاصد الحق وأهداف الحج، ولم نتحقق بمقاصد تلك العبادة العظيمة، فإننا ما فهمنا بعد لماذا نحج، ولماذا شرع الله الحج!

د. جمال عبد الستار

أستاذ بجامعة الأزهر.. رئيس مؤسسة التجديد، الأمين العام لرابطة علماء أهل السنة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى