د. حاكم المطيري يكتب: المسالمة والمقاومة (2)
تنازع الأمة.. وجذور الأزمة
لقد كانت المرحلة مضطربة غاية الاضطراب فهي من أزمان الفتن والملاحم، ووقعت الفتنة بين علماء الأمة نفسها بين عالم داع للنهوض بترك الجمود، وعالم رافض للتجديد، حتى كفر بعضهم بعضا!
وانظر ما كتبه القاضي أحمد شاكر في رسالته (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر) وكيف كان ينعى على العلماء ويحملهم مسئولية عجزهم عن مواكبة تطور الحياة وحاجة الأمة ودولها إلى الاجتهاد والتجديد، وما كتبه مصطفى صبري عن هذه الدعوة والتشنيع على دعاتها لشدة عصبيته للمذهب!
وكيف توارث تلاميذ كل مدرسة وكل شيخ رأي شيخهم في مخالفيه!
وقد كانت السلطة في كل بلد إسلامي تقف مع هذا الفريق أو ذاك بحسب مصالحها حتى لا يكاد يسلم أحد من استدعاء السلطة وتحريضها على مخالفيه وتشويه سمعتهم بالأكاذيب لصرف الأمة عنهم كما نراه اليوم رأي العين!
وانظر إلى تحامل محمد محمد حسين في كتبه -مع نفاستها في رصد ظاهرة الاستغراب- على مخالفيه حتى رماهم بكل نقيصة! وحتى طعن في أنسابهم! بينما كان يدافع من طرفي خفي عن قصور الحكم التي تواجه المذاهب الهدامة!
وكأنما الغاية من كُتبه – مع أهميتها – الدفاع عن الحكومات الوظيفية، والرد على دعاة التغيير برميهم بالماسونية تارة وربطهم بالمذاهب الهدامة تارة أخرى!
وقد كان للاستخبارات البريطانية نفسها دور كبير في ترويج الاتهامات ضد كل من يدعو إلى الثورة عليها كما فعلت حين سربت تقريرا مزورا عن علاقة جمال الدين بها وتعاونه معها! فوصل التقرير للاستخبارات العثمانية التي أوصلته للسلطان عبدالحميد -كما جاء في مذكراته- فأساء الظن بجمال الذي كان أبرز من دعا إلى الثورة على بريطانيا في كل بلد!
وهذه الفتنة بين علماء المسلمين آنذاك لم تقتصر على أهل العلم بل عمت أهل السياسة، فكان السلطان عبد الحميد يتنازعه طرفان: جمال الدين الأفغاني من جهة، وأبو الهدى الصيادي من جهة أخرى الذي كان خصومه يتهمونه بأنه جاسوس يكتب التقارير عن العلماء المخالفين لمذهبه!
وكذا كان حال أهل مصر في تلك الفترة، فقد كان التداخل بين الوجود العسكري البريطاني والوجود العثماني السياسي والقانوني والعلاقة بينهما أشد تعقيدا مما حدث بعد سقوط الخلافة وتحول الوجود البريطاني إلى احتلال مباشر يجعل التعاون معها شبهة وخيانة للأمة وانحيازا لعدوها!
وقد كانت مصر آنذاك تتبع الخلافة العثمانية سياسيا وقانونيا، وإن كانت تحت الحماية البريطانية، وكانت إسطنبول قد قطعت شوطا في التحديث والاستفادة من الدول الأوربية -خاصة ألمانيا- ومعاهدها ومناهجها وخبرائها في كل المجالات الذين استعان بهم السلطان عبد الحميد لتطوير الدولة.
وكان المصريون يحذون حذوهم مع البريطانيين الذين كانوا يصرحون بأنهم أصدقاء للخلافة وحلفاء للسلطان عبدالحميد، وهي علاقة امتدت أكثر من مئة عام بين بريطانيا كقوة عالمية بحرية والخلافة العثمانية كقوة عالمية برية، والتعاون بينهما، وكانت بريطانيا تدخل المناطق التابعة للخلافة لتأمين طرق التجارة البحرية مع اعترافها بتبعية هذه المناطق للخلافة العثمانية سياسيا وقانونيا كما جرى في مصر والخليج العربي، فلم يكن الاتصال بين المسئولين البريطانيين في مصر والزعماء السياسيين والعلماء المسلمين شبهة كما حدث بعد ذلك حين غدرت بريطانيا بالخلافة العثمانية وانحازت لفرنسا وروسيا في الحرب العالمية الأولى، بل ظلت بريطانيا تتعهد لمسلمي الهند ومصر بأنها لن تدخل في حرب ضد الخلافة العثمانية، باعتبار أن وجودها في العالم الإسلامي لا يشكل تهديدا للخلافة ولا خطرا عليها بل هي حليفة لها تتعاون معها لدفع خطر روسيا وفرنسا!
ولشدة تشابك العلاقة بين الخلافة العثمانية وبريطانيا في مصر استصدرت لندن فرمانا عثمانيا بعصيان أحمد عرابي وخروجه عن طاعة الخديوي توفيق؛ لمواجهة ثورته والقضاء عليها باعتبارها تهديدا لمصالح بريطانيا الاقتصادية والبحرية، بينما اعتبرتها الخلافة خروجا على السلطة العثمانية المتمثلة في الخديوي في مصر مع تعاطفها مع عرابي في بداية الثورة وتراجعها عن تأييده بعد فشل الثورة خشية من إعلان بريطانيا احتلال مصر وإنهاء تبعيتها السياسية والقانونية للخلافة العثمانية!
والحكم على رجال هذه المرحلة -بل كل عصر- يحتاج إلى عدل وعلم وبصيرة بالعصر وظروفه.
ومما يعرف به صدق العالم وصلاح سريرته لله ورسوله والمؤمنين الذكر الحسن في الأمة، وثمرة عمله، وحسن خاتمته، فإن الله لا يصلح عمل المفسدين، ولا يضيع أجر المحسنين، وإنما الأعمال بخواتيمها، ولو لم يكن لرشيد رضا إلا:
١- مجلة المنار التي كانت أعظم منابر الإحياء الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري والتي لا يمكن أن تكون إلا توفيقا ربانيا فلا يتأتى مثل هذا العمل العلمي والإعلامي -الذي دام نحو نصف قرن- إلا بمدد من الله، حتى لم يبق عالم من علماء الأمة في مشارق الأرض ومغاربها آنذاك ممن يعنى بالأمة وشئونها العامة لم يقتبس من نورها، وحتى لم يبق بلد إسلامي إلا وكان تلاميذه هم قادة الإصلاح الديني فيها حتى الكويت التي كانت بلدة صغيرة آنذاك زارها ودعا أهلها للنهوض بالتعليم الديني فاستجاب له خيارها وأسسوا جمعية الإرشاد، ولم يسلم فيها ممن كفره وبدعه من الصوفية والمتمذهبة حتى همّ بعضهم باغتياله فنجاه الله منهم، كما ذكر ذلك مؤرخ الكويت عبدالعزيز الرشيد الذي تأثر خطاه وذكر زيارته وأثرها الكبير في الإصلاح، فقال في (تاريخ الكويت ص 353): (الآراء الحرة والنصائح الثمينة التي كان يبثها أهل العلم والفضل من الغرباء الذين يتخذون ساحة الكويت ميدانا لتعاليمهم الراقية وأفكارهم الحية وفضحهم هناك دسائس أهل الغش والخداع، فبذلك اقتلعوا من أذهان الكثيرين ادغال الجمود وحصدوا أشواك التعصب وبذروا البذور الطيبة الصالحة، وكان أول من حاز قصب السبق في هذا المضمار: الاستاذ الكبير العلامة المحقق السيد رشيد رضا، فإنه في السنة التي زار فيها الكويت أحدث انقلابًا بين أهلها وتأثيرًا عظيمًا بخطبه الرنانة التي قام بها في أكبر جامع وهو يتدفق كالسيل المنحدر، قام بتلك الخطب الساحرة هناك، فتاب إلى الله كثير ممن كانوا يعتقدون في فضيلته السوء، وأصبح الراغبون في العلوم الراقية التي كانوا يحرمونها أولا جما غفيرًا بعد أن كانوا يعدون على الأصابع، وكذا ازدادت الرغبة في مجلته الغراء بعد أن لم يكن لها من المشتركين إلا اثنان او ثلاثة).
٢- وإلا حسن البنا من تلاميذه الذي كان يرى نفسه وجماعته امتدادا لدعوة شيخه رشيد رضا، ويعد نفسه حسنة من حسناته، فما من حسنة في ميزان عمله إلا ولشيخه رشيد مثلها، كما في الحديث: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه) ولا يتحمل رشيد وزر من خان أمته من تلاميذه، ولا من خالف طريقته التي انتهى إليها في آخر حياته كما في آخر كتاباته في المنار، حيث كان في بدايات مجلة المنار ينزع إلى طريقة شيخه محمد عبده العقلية لشدة افتتان أهل ذلك العصر بالغرب وحضارته العلمية، ومحاولة محمد عبده التقريب بين الدين والعلم، ثم بدأ ينزع رشيد إلى الطريقة النقلية أكثر في آخر حياته.
والقصد أن سنة الله في المؤمنين مطردة وهو أنه يوفيهم أعمالهم بأحسن ما كانوا يعملون، ويجعل لهم في عموم الأمة ذكرا حسنا، وهو عاجل بشرى المؤمن، وهذا ما يرى لكل مصلح في هذه الأمة في كل عصورها، فإنه يشيع ذكره الحسن في عمومهم، ويطلق الله ألسنتهم في الدعاء له بعد موته على اختلاف مذاهبهم وبلدانهم، بلا عصبية تجمعهم به إلا توادّ المؤمنين ودعاؤهم لمن سبقهم من أهل الإيمان، مع وجود بعض من يبغضهم ويذمهم فلا يضرهم ذلك، كما سأل الإمام مالك بعض أصحابه (ما يقول الناس في؟ قال هم بين مادح وقادح! قال الحمد الله فما زال الناس كذلك! ونعوذ بالله من تتابع الألسنة)!
﴿ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا﴾.