مقالات

د. حاكم المطيري يكتب: ثبوت النسب.. بين الحكم الشرعي والقانون الوضعي

الواجب شرعا فيما يجري من طعون حول قضية الأنساب الدخيلة -والنسبة إلى الأسر والقبائل الأخرى ومحاولة التحقيق فيها لوجود من ينفي نسب غيره عنه- رد الحكم إلى الكتاب والسنة وأحكام الشريعة؛ لأنها موروث اجتماعي ديني لا يمكن إخضاعه اليوم للثقافة المدنية وقوانينها الوضعية، فقد أقر الإسلام أكثر صور الانتماء للقبائل والأسر بالحلف، والولاء، والمجاورة، ولم يبطل الإسلام في أنساب العرب في الجاهلية إلا نسب التبني، لأنهم كانوا يعدونه كالابن بالولادة في كل أحكامه، فأبطل ذلك الإسلام، وأقر الإسلام باقي صور النسبة في العرب للقبائل ومنها:

١- نسب المولى إلى مواليه، كما منع النبي ﷺ مولاه أبا رافع من أخذ الصدقة، وقال: (مولى القوم منهم)، فجعله من بني هاشم ولاء وحكما، وقال ﷺ: (الولاء لحمة كلحمة النسب).

فكان كل من أعتق عبدا انتسب إليه ولاءً، وورثه المولى إن مات وليس له وارث، كما قال النبي ﷺ (الولاء لمن أعتق).

٢- وكذا أقر نسب الحليف إلى حلفائه، وهو شائع في الجاهلية وأقره الإسلام، كالمقداد بن الأسود رضي الله عنه، وهو من كندة وحالف الأسود بن عبد يغوث الزهري القرشي، ونسب إليه حلفا وولاء، لا نسبا ولادة وصلبا، وبقي كذلك بعد الإسلام ينسب للأسود حلفا، وقال ﷺ: (أيما حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)، وقد بقيت قبائل العرب إلى وقت قريب تعد الحليف منها، ويحمل اسمها، ويدفع معهم الدية، وحتى قيل كل قبائل العرب أحلاف؛ لكثرة ارتحالهم في الصحراء، واختلاط بعضهم ببعض بالمصاهرة والمجاورة، فتبقى النزائع من الأسر مع القبائل التي نزعت إليها.

٣- والنسب إلى الخؤولة لمن انقطع عن أهله وانحاز مع أخواله وانتسب إليهم، كما قال النبي ﷺ: (ابن أخت القوم منهم).

٤- وزاد الإسلام صورة أخرى وهي نسبة من أسلم على يد رجل إليه كالإمام البخاري الجعفي؛ لأن جده أسلم على يد رجل جعفي، وكذا الإمام مسلم القشيري مولاهم، وجاء في الأثر: (من أسلم على يدي رجل فله ولاؤه).

وقد كانت المجتمعات الخليجية إلى ما قبل الاستقلال والدول الحديثة تعرف هذه الأنساب وتعترف بها، فكان كل من عاش مع أسرة أو قبيلة -وانقطع عن أهله- نسب إليها سواء كان جارا، أو راعيا، أو خادما، أو عبدا، أو معدوما، أو مجهول النسب، فيحمل اسم من عاش معهم، وينتسب إليهم، ولا يجدون في ذلك أدنى غضاضة، ولما قامت الدول الحديثة وبدأ اصدار الأوراق الرسمية تم تسجيلهم بحسب العرف الاجتماعي الجاري إلى أسرهم التي عاشوا فيها لا إلى أسرهم التي انقطعوا عنها، وربما لا يعرفونها أصلا.

فالواجب اليوم معالجة هذه القضية بالذات وفق أحكام الشريعة والعرف الاجتماعي آنذاك لا بحسب القانون الوضعي اليوم!

والمحرم شرعا هو فقط من يرغب عن نسبه إلى أبيه وهو يعرفه لغير ضرورة، فينتسب إلى غيره نسبة بنوة غير صحيحة، بخلاف من انتسب لغير أبيه نسبة ولاء، كما قال تعالى: ﴿فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم﴾.

وقد قال النبي ﷺ: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا تدعها: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب..)، فلا يُجترأ على هذا الأمر العظيم، ولا يُنفى نسب أحد عن قبيلته أو أسرته بالقيل والقال، والتنابز بالألقاب، والطعن في الأنساب، والتفاخر بالأحساب، ولا بالشك والظن، ولا بالأوهام أو الخصام، فكل ذلك محرم تحريما قطعيا وهو من أمر الجاهلية، إلا ببينة ودليل قطعي، وحكم قضائي شرعي، لا مدني وضعي، ولا يرجع في التحقق من النسب المشهور إلى الأسرة والقبيلة إلى الفحص الجيني الوراثي؛ لأن الأنساب تثبت شرعا بالولادة على فراش الزوجية، إلا أن ينفي الأب نسب الولد ويلاعن زوجته، كما تثبت شرعا وعرفا بالولاء والحلف والمجاورة.

وقد كتبت دراسة فقهية في أحكام الانتساب للقبائل والأسر على خلاف المشهور من أنسابها فيما بينها حال ظهور نتائج فحص الحمض النووي على خلاف المشهور في النسب، كما في المشجرات السلالية التي تصدر عن مراكز علمية خاصة، وكيف يمكن التوفيق بينها حال الاختلاف مع نتائج الفحص الجيني، بعنوان (أحكام النسب لقبائل العرب بين رواية التاريخ والعلم الحديث)

د. حاكم المطيري

الأمين العام لمؤتمر الأمة ورئيس حزب الأمة، أستاذ التفسير والحديث - جامعة الكويت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights