مقالات

د. حاكم المطيري يكتب: سوريا الثورة.. ومراقد الضرار

حين بعث علي بن أبي طالب -كما في الصحيح- صاحب شرطته أبا الهيجاء الأسدي وأمره بما أمر به النبي ﷺ عليا نفسه: (ألا تدع قبرا مشرفا إلا ساويته، ولا تمثالا إلا طمسته) كان ذلك تعبيرا عن حقيقة الإسلام والتوحيد الذي بعث الله به رسوله ﷺ من أجل تحرير الإنسان وعقله وروحه من عبادة الإنسان وتعظيمه، سواء كان هذا الإنسان رئيسا على عرشه في قصره، أو وليا تحت التراب في قبره، فالأموات كالأحياء لا يضرون ولا ينفعون، وأنه لا فرق بين الوثن الذي يجب طمسه، والقبر الذي يجب تسويته؛ لأنهما مزارات الوثنية في الجاهلية، قال ابن عباس في تفسير آية: ﴿ولا تذرن ودا ولا سواعا..﴾، كما في صحيح البخاري: (كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح لما ماتوا عكفوا على قبورهم، فطال عليهم الأمد، فصوروا تماثيلهم ثم عبدوهم).

وقد كان أهل الجاهلية يعظمون قبور رؤسائهم، كما قال حسان بن ثابت في ملوك الغساسنة في الشام:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم المفضل

وكما قيل في قبر غالب التميمي جد الفرزدق الشاعر:

إذا ما أتى قبره خائف

أناخ على القبر بالأسعد

وكان قبره في الجاهلية مزارا يستعيذ به الجاهليون ويذبحون عنده الإبل والغنم ويطعمون الناس، كما قال الشاعر عن قبره:

بقبر امرئ تقري المئين عظامه

ولم يك إلا غالباً ميّتٌ يقري

قال ابن دريد في الكامل:(يريد أنهم كانوا ينحرون الإبل عند قبور عظامهم، فيطعمون الناس في الحياة وبعد الممات، وهذا معروف في أشعارهم).

وكان الجاهليون يزورون قبور عظمائهم ويظللونها ويعكفون عندها، فنهى النبي ﷺ المسلمين في بداية الإسلام عن زيارة القبور كلية؛ لقطع ذرائع هذه الوثنية الجاهلية وسد بابها، وأمر بمساواة القبور في الأرض، حتى لا تعظم في النفوس بما عليها من أبهة البناء الذي يجعل لها قدسية تستهوي قلوب الضعفاء، وقال النبي ﷺ: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا)، فلما استقر الإسلام في النفوس، وزال ما يخشى من فتنة القبور والأموات، أذن النبي ﷺ فقط بزيارتها لتذكر الآخرة فقال ﷺ: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة) وليس للمنع من زيارتها في أول الإسلام إلا لأنها ذريعة للوثنية.

وقد باتت المراقد اليوم أشد خطرا، وأكبر ضررا؛ إذ صارت سببا للغزو والاحتلال والحروب والعدوان وإبادة الملايين من الأحياء الأبرياء بذريعة تعظيم الأموات!

وقد كادت بالأمس شائعة الاعتداء على قبر اليحصبي -الذي لم يسمع به أحد من قبل- أن تؤدي إلى فتنة كبرى في سوريا الثورة، وأن تتخذها الثورة المضادة ذريعة لإثارة حرب أهلية دينية، تماما كما أدى شعار الدفاع عن مرقد زينب سنة ٢٠١٢ م، إلى قيام ميليشيات إيران وأحزابها الطائفية بقتل وجرح مليون سوري وتهجير خمسة عشر مليون سوري بريء من وطنهم ظلما وعدوانا!

وصارت هذه المراقد مزارات ضرار يجب على الثورة معالجة فتنتها علاجا شرعيا جذريا حاسما حتى لا تتكرر مأساة التغريبة السورية مرة أخرى وتلعن الأجيال كل من كان سببا في تأجيل حسمها!

وهو ما يوجب على الحكومة الجديدة في سوريا ووزارة الأوقاف فيها إلى توعية المجتمع كله بحقيقة التوحيد الذي أبطل كل هذه المظاهر الوثنية، والتحذير منها، حتى يعرف المجتمع أن زيارتها هو فقط للدعاء لأهلها وتذكر الآخرة.

ولهذا ذهب الأئمة الأربعة إلى تسوية القبور وتحريم تعظيمها فقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: (لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر، ونكره أن يجصص، أو يطين، أو يجعل عنده مسجدًا، أو علمًا، أو يكتب عليه).

وقال الإمام الشافعي: (وأكره أن يبنى على القبر مسجد، وأن يسوى، أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه).

وقال: (كره -والله تعالى أعلم- أن يعظم أحد من المسلمين يعني يتخذ قبره مسجدًا، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده).

وقال أيضا: (وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها [من أبنية القبور]، فلم أرَ الفقهاء يعيبون ذلك).

وقال ابن عبد البر في بيان مذهب مالك: (يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد).

وهذا محل اتفاق بل إجماع من الأئمة وسلف الأمة.

د. حاكم المطيري

الأمين العام لمؤتمر الأمة ورئيس حزب الأمة، أستاذ التفسير والحديث - جامعة الكويت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights