د. حاكم المطيري يكتب: نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (١٠)
﴿أَم حَسِبَ الَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ أَن لَن يُخرِجَ اللَّهُ أَضغانَهُم وَلَو نَشاءُ لَأَرَيناكَهُم فَلَعَرَفتَهُم بِسيماهُم وَلَتَعرِفَنَّهُم في لَحنِ القَولِ وَاللَّهُ يَعلَمُ أَعمالَكُم وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتّى نَعلَمَ المُجاهِدينَ مِنكُم وَالصّابِرينَ وَنَبلُوَ أَخبارَكُم﴾ [محمد: ٢٩-٣١].
ذكرت السورة في هذه الآيات صفات المنافقين الظاهرة التي يُعرفون بها، بعد أن ذكرت في الآيات قبلها أفعالهم التي كانوا يسرونها، وصاروا منافقين بسببها، وهي طاعتهم للكافرين في بعض الأمر، وكراهيتهم لما شرعه الله لهم من أحكام الإسلام، واتباعهم ما أسخط من أمر الجاهلية.
وبدأت هنا بالنعي عليهم حسبانهم الكاذب أن الله لن يفضحهم، ولن يخرج أضغانهم وأحقادهم وعداوتهم للنبي ﷺ والمؤمنين، التي يخفونها في صدورهم، ويسرونها للكافرين، حتى يظهر أمرهم، ويحذرهم النبي ﷺ والمؤمنون، وكان كشف ذلك من حالهم كافيا -لو كان هؤلاء المنافقون يعقلون- في إثبات أن هذا القرآن وحي من عند الله، حيث كشف دخائل قلوبهم، وأسرار صدورهم، وهو ما لا يعلمه ولم يطلع عليه إلا الله، ما يوجب عليهم عقلا الخشية والتوبة والاستغفار، إلا أنهم كما وصفهم القرآن ﴿ولكن المنافقين لا يفقهون﴾[المنافقون:٧].
وعرّفهم هنا بقوله: ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ فأطلق على نفاقهم الذي يسرونه وصف المرض لضرره وخطره، بخروج صاحبه عن حد الصحة باعتلال قلبه وعقله وروحه، حتى يظهر ذلك على أفعاله وسلوكه وحياته، شكا لا يقين فيه، واضطرابا لا استقرار معه، ولا اطمئنان، فالمنافقون ﴿مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء﴾[النساء:١٤٣] لا إلى الإيمان والمؤمنين، ولا الكفر والكافرين.
وخص المرض بالقلب، إذ النفاق علة باطنية خفية، خطيرة كعلل القلب تنهك صاحبها حتى يهلك، فلا يكاد ينهض، أو يصح ويسلم، بل هو في تعب ووهن دائم، فيسري ذلك على أعضاء الجسد كله، حتى أنهم إذا قاموا إلى فعل الخير قاموا كسالى كارهين، كما قال القرآن عنهم: ﴿وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون﴾ [التوبة: ٥٤].
وفي الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، ألا وهي القلب)، ومرض القلب المعنوي بالشك والارتياب والاضطراب والخداع، أشد خطرا على الإنسان من مرض القلب المادي بالأوجاع، فالمنافقون يتظاهرون بالإسلام، ويبطنون الكفر به، والعداوة لأهله، فيعيشون تناقضا بين حياة ظاهرة زائفة كاذبة، وباطنة حاقدة حاسدة، تتنازعهم فيها الأهواء والفتن، فيظهرون أنهم مع المؤمنين، ويغيظهم أن يظهروا على عدوهم، وكلما ظهر الإسلام والمؤمنون وذل الكفار والكافرون زاد غيظهم وحزنهم وخوفهم، كما قال عنهم: ﴿ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون﴾ [التوبة: ٥٦-٥٧].
وقد بلغ من كشف القرآن لحال المنافقين أن صاروا معروفين بسيماهم، كما توعدتهم هذه السورة ﴿ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول﴾، فنزلت بعد ذلك سورة براءة في السنة التاسعة بعد غزوة تبوك وفضحتهم حتى عرفهم النبي ﷺ بأعيانهم، كما قال تعالى: ﴿فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون﴾ [التوبة: ٨٣-٨٤].
وصار رؤوس المنافقين في المدينة وعددهم اثنا عشر رجلا معروفين لعامة المسلمين، كابن أبي سلول كما ذكرهم أصحاب المغازي والسير بأسمائهم، وكان الصحابة يحذرونهم، وبقي أتباعهم منبوذين مقموعين معروفين عند خاصة الصحابة، وكان أعلم الناس بهم حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي ﷺ، فقد أخبره النبي ﷺ بأسمائهم، ولم يخبر غيره لعلهم يتوبون فيتوب الله عليهم، وليكون في الصحابة من يعرفهم عند الحاجة؛ لمنع خطرهم.
وفي الصحيحين: (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له، فأعطاه قميصه، وقال: إذا فرغت منه فآذنّا، فلما فرغ منه آذنه به فجاء ليصلي عليه، فجذبه عمر فقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين).
وقد ضرب الله على هؤلاء المنافقين الذلة وأخزاهم في الدنيا، كما توعدهم القرآن: ﴿قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون﴾[التوبة: ٥٢].
وقال: ﴿وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم﴾[التوبة: ١٠١]
وتحقق وعيد الله فيهم في حياة النبي ﷺ بمنعهم من الخروج في الجهاد معه، ومن تولي شيء من أمور المسلمين، وبعد وفاته ﷺ حين ارتدوا وأظهروا كفرهم، فقاتلهم الصحابة وقضوا على فتنتهم، وعذبهم الله مرتين بالقتل في الدنيا، والعذاب يوم القيامة، فمحّص الله المؤمنين في حروب الردة، ولم يجاهد معهم منافق، ولم يشارك في الفتوح أحد من المنافقين، وتحقق الفتوح في عهد أبي بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء وظهوره في الأرض براءة لهم من النفاق، فإن الله وعد المؤمنين بالنصر والاستخلاف في الأرض ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾ [النور: ٥٥]
وتوعد المنافقين بالخزي والذل واللعن والقتل ﴿لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا﴾ [الأحزاب: ٦٠-٦١].
وكل من أغاظه ظهور الإسلام وأهله، وأغاظه الصحابة رضي الله عنهم؛ فهو كافر أو منافق، كما قال تعالى في سيماهم وأن الله جعلهم غيظا للكفار: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما﴾ [الفتح: ٢٩]
﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾ وهو ما يظهر على فلتات ألسنتهم، وما يظهرونهم من شماتة بالمؤمنين، ولمز بالمجاهدين والمطوعين والمتصدقين، وما يعرضون به تلويحا من القول في الطعن بالإسلام وأحكامه، وقد عرّف القرآن المؤمنين بأحوال المنافقين، وأفعالهم، وأقوالهم، وسيماهم؛ لأنهم سيبقون في المجتمع الإسلامي إلى يوم القيامة، ليأخذ المسلمون حذرهم منهم، فيعرفوهم بميلهم إلى الكفار، وكراهتهم الإسلام وأهله، ورفضهم التحاكم إلى حكم الله ورسوله، وفرحهم بظهور الكفار على المسلمين في حروبهم.
وكل ما شرعه القرآن من أحكام في شأن المنافقين فالواجب على الإمام العام، وأئمة المسلمين وفقهائهم وعلمائهم العمل به؛ فلا يولونهم الولايات على المسلمين، ولا يصلون على من تحققوا نفاقه الأكبر من أفعاله أو أقواله، ممن يتظاهر بالإسلام، فضلا عمن يظهر العداوة له وللمسلمين، ويوالي الكفار صراحة.