د. حاكم المطيري يكتب: نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (١١)
﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتّى نَعلَمَ المُجاهِدينَ مِنكُم وَالصّابِرينَ وَنَبلُوَ أَخبارَكُم إِنَّ الَّذينَ كَفَروا وَصَدّوا عَن سَبيلِ اللَّهِ وَشاقُّوا الرَّسولَ مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيئًا وَسَيُحبِطُ أَعمالَهُم يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وَلا تُبطِلوا أَعمالَكُم﴾ [محمد: ٣١-٣٣]
جعل الله الجهاد في سبيله بالنفس والمال الحد الفاصل بين الإيمان والنفاق، وهو الاختبار الذي يبتلي الله به المؤمنين وصدق إيمانهم، وصبرهم، وثباتهم الدال على ثقتهم بالله ووعده لهم بالنصر، وبظهور دينه ورسوله، ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض، فقال: ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم﴾ فتظهر حقائق الأمور وخفاياها حتى تكون أخبارا بعد أن كانت أسرارا، وحتى تتحقق بالاختبار فتكون أعمالا تشهد على صدق الأخبار.
وقد أمر الشارع باستحضار نية الجهاد في سبيله لمن تعذر عليه حتى يتيسر له، وجعل ذلك فرقا بين الإيمان والنفاق، فقال ﷺ: (من لم يغزو، ولم يحدث نفسه بالغزو؛ مات على شعبة من نفاق)، فكان ترك الجهاد بالنفس والمال أوضح صور النفاق، وعدم استحضار النية فيه شعبة من شعب النفاق.
وعلم الله بحالهم ﴿حتى نعلم المجاهدين﴾ سابق لعملهم ذلك بل ولخلقهم، فقد خلقهم وقدر أعمالهم قبل التكليف، وذلك كله في عالم الغيب، حيث قال الله للملائكة عند بدء الخلق: ﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾[البقرة:٣٠]، وإنما المراد بالعلم في هذه الآية وما شابهها ظهوره في عالم الشهادة فعلا لهم واقعا منهم بعد التكليف، فتظهر حكمة الله من خلقهم واختبارهم، ويراه الملائكة، ويسجلونه عليهم، في صحائف أعمالهم بالعلم الذي شهدوه منهم، ويراه المؤمنون فيعرفون عدوهم ومن يوالونه، ومن يعادونه، ومن يولونه عليهم بالولايات الشرعية لإقامة حكم الله والجهاد في سبيله، ومن لا يولونه من المنافقين الذين لا يجاهدون ولا يرضون حكم الله ورسوله، كما قال تعالى: ﴿أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون﴾[التوبة: ١٦]، ومن يزكونه ويدعون له ويستغفرون له ويصلون عليه إذا مات من المؤمنين، ومن لا يستغفرون له، ولا يشهدون له من المنافقين، بحكم مقام الشهود الذي جعله الله لهم على الأمم، كما قال تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس﴾[البقرة:١٤٣]، وكما قال ﷺ: (أنتم شهداء الله في الأرض، فمن أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار)، ويراه أيضا المنافقون من أنفسهم، فتقوم به حجة الله عليهم من أنفسهم وأعمالهم، حين ظهرت لهم فتحقق لهم كذب دعواهم وعهودهم، كما قال عنهم -في سورة براءة التي فضحت أسرارهم وأحوالهم بالتفصيل، وهي كالشرح لسورة محمد التي حذرتهم وأنذرتهم وتوعدتهم بفضح خباياهم-: ﴿ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب﴾ [التوبة: ٧٥-٧٨].
وعطف الصابرين على المجاهدين ﴿المجاهدين منكم والصابرين﴾؛ لأن المراد وغاية الجهاد هو النصر على العدو، والظفر به، أو الشهادة في سبيل الله، وكلاهما لا يتحقق بمجرد الجهاد بالنفس والمال، حتى يكون معه صبر وثبات، كما قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ [الأنفال: ٤٥-٤٦].
ولهذا أوجب الله على المجاهدين الصبر والثبات، وتوعد من فرّ منهم في المعركة بالعذاب، فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير﴾ [الأنفال: ١٥-١٦]
ووجوب الجهاد والصبر، يعم الجهاد بالنفس والمال، وأصحاب القوة، وأصحاب الثروة، ويعم الصبر على القتال والإنفاق، فإن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة، ولم يعذر الله إلا من عَدِم القدرة بالنفس؛ لعجزه ومرضه، وعَدِم الثروة؛ لفقره وفاقته.
وقد قطع الله الولاية الإيمانية عن المنافقين، وأبقى لهم الولاية الإسلامية الظاهرة، كما قال تعالى: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف﴾[التوبة:٧١]، وقال عن المنافقين: ﴿المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر﴾[التوبة:٦٧]، وقطع الله الولاية بين الفريقين ﴿ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم﴾[التوبة:٥٦]، وقال عن المنافقين الذين يتولون الكافرين ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾[المائدة:٥١]؛ ولهذا لا يولّى منافق معلوم النفاق على مصالح المسلمين، وتبطل ولايته الشرعية عليهم بنص القرآن، فقد اشترط الله السمع والطاعة للأئمة من المسلمين، الذين هم منهم، كما قال الله: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾[النساء:٥٩]، بينما حكم على من تولى الكافرين بأنه منهم، فلا ولاية له على المؤمنين، إذ مقصود الولاية بين المؤمنين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حكم الله والجهاد في سبيله، بينما الولاية بين المنافقين غايتها نقيض ذلك تماما وهو النهي عن المعروف، والصد عن سبيل الله، وتعطيل حكمه، فمن أوجبوا طاعتهم فقد ضادوا حكم الله القطعي فيهم، وجعلوا لهم من الولاية ما قطعها الله عنهم، وجعلوا لهم على المؤمنين أعظم سبيل، وقد قال الله: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا﴾[النساء:١٤١]، وألزموا المؤمنين بطاعة المنافقين الذين أمر الله بجهادهم، كما قال تعالى :﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم﴾[التوبة:٧٣]، وذلك من اتباع خطوات الشيطان، وعدم معرفة سبيل المجرمين.
ولهذا السبب لم يأذن أبو بكر الصديق لمن ارتدوا وعادوا للإسلام بعد حروب الردة أن يشاركوا في الجهاد في سبيل الله في الفتوح، حتى يتوبوا توبة نصوحا، كما شرطه الله عليهم: ﴿إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما﴾ [النساء: ١٤٥-١٤٦].
وقد منع الله المنافقين من الخروج مع المؤمنين في الجهاد في سبيله؛ لأنهم من أسباب الهزيمة والخذلان والخبال، كما قال تعالى: ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين﴾ [التوبة: ٤٦-٤٧].
وكل جهاد فتح كان في تاريخ الإسلام، وسيكون إلى قيام الساعة لا يقوم به إلا المؤمنون، مهما وقع منهم من إسراف على أنفسهم، أو ظلم فيما بينهم، فالجهاد في سبيل الله دليل الإيمان، وقد وعد الله المؤمنين جميعا بالاستخلاف والنصر، وتوعد المنافقين بالذل والخزي والقتل، ووعد المؤمنين جميعا الجنة سواء السابقين والمقتصدين والظالمين أنفسهم، كما قال تعالى : ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير﴾ [فاطر: ٣٢-٣٣].
وكما أورثهم الكتاب جميعا، وجعل الولاية بينهم جميعا، ووعدهم الجنة في الآخرة جميعا؛ كذلك وعدهم بالنصر والاستخلاف في الأرض جميعا، ولم يشترط لتحقق ذلك منهم أن يكونوا جميعا من السابقين، إذ لا يخلو، ولم يخل جيش للمسلمين قط من هذه الأصناف الثلاثة الذي يجمعهم وصف الإيمان والجهاد في سبيل الله على تفاوت درجاتهم في العمل الصالح؛ بخلاف الكفار والمنافقين، فقد نفى الله عنهم الإيمان كلية، ووعدهم الخلود في النار.
ثم ذكر الله سنته المطردة بإحباط عمل من ﴿كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى﴾، سواء من كفار العرب ومشركيهم، أو كفار يهود الذين يوالونهم ويؤزّونهم، أو من المنافقين من أهل المدينة الذين يتولون الفريقين من دون المؤمنين، وأنهم جميعا ﴿لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم﴾.
وإحباط عملهم هو إبطال مؤامراتهم على رسوله ﷺ والمؤمنين، وصدهم عن سبيله بقصد الحيلولة دون ظهور دينه ورسوله ﷺ وتحقق الاستخلاف للمؤمنين في الأرض، وأن الله سيبطل كل كيد كادوه، وكل عمل عملوه، وكل مال أنفقوه، ولن يضروا الله شيئا، ولا دينه، ولا رسوله، ولا المؤمنين.
والآية عامة، فالذين ﴿كفروا وصدوا عن سبيل الله﴾ تعم كفار العرب، وكفار أهل الكتاب، والذين ﴿شاقوا الرسول﴾ تعم المنافقين الذين كانوا مع المؤمنين ظاهرا، ومع عدوهم باطنا، فشقوا صفهم، وانشقوا عنهم، وشاقوا الرسول في طاعته واتباع أمره، كما فعل أبي بن سلول يوم أحد حين رجع بثلث الجيش.
ثم خاطب المؤمنين بما يجب عليهم لمخالفة سبيل الكافرين والمنافقين ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم﴾ كما فعل أولئك الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول واتبعوا غير سبيله، وهذا شرط الإيمان وحقيقته وهو الطاعة لله وحكمه، والاتباع لرسوله ﷺ والجهاد في سبيل الله.
وقد كذب الله دعوى كل من ادعى الإيمان والإسلام وهو يدعو لغير سبيله الذي شرعه لرسوله ﷺ وأقامه خلفاؤه الراشدون، وصحابته المهديون، وكلما كان ما يدعوه مشابها لما عليه الكفار وأهل الكتاب كالعلمانية والليبرالية والشيوعية والقومية والوطنية؛ كان ذلك أظهر في كذب دعواه وبطلانها، وأدل على نفاقه وزيغه، فإن تولاهم وقاتل معهم وظاهرهم في حربهم على المسلمين فقد كفر وارتد ردة ظاهرة كردة العرب يوم وفاة النبي ﷺ، حين ارتد المنافقون من العرب، وأعرابهم، بعد أن تظاهروا بالإسلام في السنة التاسعة، ودخلت العرب كلها في الإسلام، وحذرهم القرآن: ﴿قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون﴾ [الحجرات: ١٤-١٥].
فما جاءت السنة الحادية عشرة وتوفي النبي ﷺ حتى نجم النفاق وظهر، بعد أن خفي واستسر، وثبت أن الإيمان لم يدخل قلوبهم، واتخذوا الإسلام الظاهر وقاية يتقون بها، فانبرى لهم الصحابة المؤمنون حقا الذين لم يرتابوا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فنصرهم الله على المنافقين الذين ارتدوا، وأعز الله دينه بعد وفاة نبيه ﷺ كما كان في حياته، ولم يظهر في أهل مكة نفاق، بل ثبتوا على الإسلام حين ارتد العرب، وشاركوا أهل المدينة في حروب الردة وجهاد المرتدين، ثم في حروب الفتح الإسلامي، وكلها فتوح الإسلام التي وعد الله المؤمنين بنص القرآن بها، وبشر النبي ﷺ بها أصحابه كما في الصحيح: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)، وقد كان للخلفاء الاثنا عشر الذين بشر النبي ﷺ بهم وبفتوحهم أوفى نصيب من هذه الفتوح، كما في الصحيح: (لا يزال هذا الإسلام عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش)، وتحقق الاستخلاف لهم في الأرض على نحو لم يحدث مثله في تاريخ العالم، حتى بلغ ملك الإسلام من أطراف الصين شرقا، إلى الأندلس غربا، فلم يحبط الله لهم غاية، ولم يسقط لهم راية؛ فدلّ على أنهم تحقق فيهم شرط الاستخلاف وهو الإيمان والجهاد، وأنهم براء من النفاق، الذي توعد الله أهله بالخزي واللعن والخبال والخذلان.