الخميس يوليو 4, 2024
بحوث ودراسات

د. حسام الدين عفانة يكتب: خطبةُ الجمعةِ خُطبتان وليس خُطبةً واحدةً

يقول السائل: ما قولكم في خطبةِ الجمعةِ خطبةً واحدةً قصيرةً جداً بكلماتٍ قليلةِ العددِ، من أجل إحداث صدمةٍ عند المصلين كما زعموا! فما الحكمُ الشرعي لذلك، أفيدونا؟

 الجواب:

1- أولاً: اتفق جماهيرُ الفقهاء من المذاهبِ الأربعةِ وغيرِهم على أن الخطبةَ شرطٌ لصحة صلاةِ الجمعةِ، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وجملة ذلك أن الخطبةَ شرطٌ في الجمعة، لا تصحُّ بدونها، كذلك قال عطاء والنخعي وقتادة والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، ولا نعلمُ فيه مخالفاً إلا الحسن] المغني 2/74.

وقال الماوردي: [قال الشافعي رضي الله عنه: “وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَخْطُبُ جَالِسًا ولا بأس بالكلام ما لم يخطب “.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا، لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا، فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، فَإِنَّهُ شَذَّ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تَصِحُّ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْخُطْبَةَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يَصِحَّ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا. وَهَذَا خَطَأٌ، وَيُوَضِّحُهُ إِجْمَاعُ مَنْ قَبْلَ الْحَسَنِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالسَّعْيِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ الْخُطْبَةَ والصلاة، فاقتضى أن يكون الأمر بها وَاجِبًا.

وَالثَّانِي: أَنَّ الذِّكْرَ مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ذَلِكَ: بِأَنْ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَأَكَّدَهُ بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي”] الحاوي الكبير 2/432.

2- ثانياً: قال جماهيرُ الفقهاء يخطبُ الخطيب خطبتين في صلاة الجمعة لا خطبة واحدة، فلا بدَّ من خطبتين كما فعل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهما شرطٌ لصحةِ صلاةِ الجمعةِ، وهذا هو الثابت من السُّنَّة النبوية، فعن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخطُبُ خُطبَتَينِ يقعُدُ بينهما) رواه البخاري ومسلم.

وعن جابِرِ بنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:(كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ قائمًا، ثم يَجلِسُ، ثم يقومُ فيخطبُ قائمًا) رواه مسلم.

وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (صلُّوا كما رَأيتُموني أُصلِّي) رواه البخاري، فالنبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما تَرَكَ الخُطبةَ للجُمُعةِ في حالٍ، بل واظبَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على خُطبتَي الجُمُعةِ مواظبةً غيرَ منقطعةٍ، وهذه المواظبة المستمرُّة تدلُّ على وجوبِهما. وهذا هو القولُ الصحيحُ من أقوال الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة؛ وهو قولُ عامَّةِ العُلماءِ، وسبق كلام الإمام الشافعي كما نقله الماوردي: [قال الشافعي رضي الله عنه:”وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً].

وقال الإمام النوويُّ: [وأنَّ الجُمعةَ لا تصحُّ إلا بخُطبتين؛ قال القاضي: ذهب عامَّةُ العلماءِ إلى اشتراطِ الخطبتين لصحَّةِ الجمعةِ] شرح النووي على صحيح مسلم 6/150.

وقال الخرشيُّ المالكي: [وبخطبتين قبل الصلاة، هو أيضًا معطوفٌ على ما قبله من شروط الجمعة، أي: ومِن شرْطِ صحةِ الجمعةِ الخُطبةُ الأولى والثانية، على المشهورِ فلو تركهما أو إحداهما لم تصحَّ، وهو مذهبُ ابن القاسم] شرح مختصر خليل 5/175.

والأدلةُ على الخطبتين ما سبق من السنَّةِ النبوية.

وإذا اقتصرَ الخطيبُ على خطبةٍ واحدةٍ فقد خالفَ هديَ النبي صلى الله عليه وسلم، ويلزمُ أن يعيدَ المصلون معه الخطبةَ والصلاةً جميعاً في الوقتِ، فإن لم يفعلوا ذلك فالواجبُ في حقهم إعادةُ الصلاةِ ظهراً, وهذا مذهبُ جمهور العلماء، قال العدوي المالكي: [فإنْ خطَب واحدةً وصلَّى أعادَ الجمعة، وكذلك إنْ خطب خُطبتين ولم يخطبْ من الثانية ما له قدرٌ وبالٌ، لم تُجزِهم] حاشية العدوي 3/145.

وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: [حدثَ أن خطبَ الإمامُ يوم الجمعة خطبةً واحدةً، وهو رجلٌ صلى بالنيابةِ عن الإمامِ لغيابِ الإمامِ، وهو كبيرُ السنِّ، وبعد نهاية خطبتهِ الأولى قال للناس: قوموا للصلاة، فالناسُ قاموا وصلوا، ثم اختلفَ بعد ذلك كثيرٌ من الناس، هل الصلاةُ صحيحةٌ أم لا؟ وأردنا من سماحتكم الإفادة؟ الجواب: الصلاةُ غيرُ صحيحةٍ، وعليه أن يرجعَ ويخطبَ الخطبة الثانية، ثم يعيدَ الصلاة فلا بدَّ من خطبتين، كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهما شرطٌ لصحةِ الصلاة، هذا هو الأصحُ، فعلى هذا الرجل أن يعيدَ الصلاة، وعلى أصحابه أن يعيدوا الصلاة ظهراً، وفي المستقبل لا بد من خطبتين قبل الصلاة.]

وسئل الشيخ العثيمين: [خطيبُ الجمعة في بلدي يخطبُ خطبةً واحدةً لا يجلس فيها الجلسة المعتادة من قبل الخطباء، هل يعتبرُ هذا مخالفُ للسنَّةِ؟ الجواب: نعم، هذا مخالفٌ للسنَّةِ بلا شكٍ؛ فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطبُ في يوم الجمعة بخطبتين، يفصلُ بينهما بجلوس، بل إن أكثر أهل العلم يقولون: إن صلاةَ الجمعة لا تصحُّ؛ لأن من شرط صحة صلاة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، وعلى هذا فبلِّغ هذا الإمام أن عمله هذا مخالفٌ للسنَّةِ، وأن عمله هذا مقتضٍ عند كثير من العلماء ألا تصحَّ جمعتهُ، وقل له يتق الله عز وجل، ويتابع النبيَّ صلى الله عليه وسلم في هديه، فإن خيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. نسأل الله لنا وله الهداية.]

وورد في فتوى لدار الإفتاء الأردنية ما يلي: [يشترطُ لصحةِ صلاةِ الجمعةِ أن يتقدمها خطبتان يجلسُ بينهما الإمامُ، وذلك عند جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة؛ وذلك لخبرِ الصحيحين: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا)، ولأن الخطبتين أقيمتا مقامَ الركعتين فكلُّ خطبةٍ مكانَ ركعةٍ، والإخلالُ بإحدى الخطبتين كالإخلالِ بإحدى الركعتين, فكما لا يجوزُ الاقتصارُ في صلاة الجمعة على ركعةٍ واحدةٍ، كذلك لا يجوزُ الاقتصارُ على خطبةٍ واحدةٍ، وإذا نسي الخطيبُ الخطبةَ الثانية وجب على المستمعين أن ينبهوه كما لو نسي ركعةً من ركعات الصلاة, وسواءٌ ترك الخطيبُ الخطبةَ الثانيةَ عمداً أو سهواً وجب تذكيرهُ، فإن لم يتذكر فلا يجوزُ متابعته على ذلك, حيث تبطلُ صلاةُ مَنْ تابعهُ، وعليه إعادةُ الصلاةِ ظهراً، ويجوزُ أن يقومَ أحدُ المصلين ممن استمع لأركان الخطبة الأولى، ويأتيَ بالخطبةِ الثانية إذا لم يطلْ الفَصلُ، وتصحُّ بذلك صلاةُ الجمعة للجميع. وأما إذا لم يقم أحدٌ بذلك أو طالَ الفصلُ وكان الوقتُ باقياً فيجبُ عليهم أن يجتمعوا ويعيدوا الخطبةَ والصلاةَ جميعاً، فإن لم يفعلوا ذلك فالواجبُ في حقهم إعادةُ الصلاةِ ظهراً, وهذا مذهبُ الجمهور من العلماء.]

وورد في فتوى لرئيس المجلس الإسلامي للإفتاء في الداخل الفلسطيني ما يلي: [ما حكمُ اقتصار الإمام على خطبةٍ واحدةٍ للجمعة بكلماتٍ معدودةٍ ؟ الجواب: بدأ يبرزُ في الآونةِ الأخيرةِ مشهدٌ متكررٌ، وهو صعودُ الخطيبِ المنبرَ يومَ الجمعة، والاقتصارُ على خطبةٍ واحدةٍ بكلماتٍ معدودةٍ، وذلك بهدفِ لفت الأنظارِ وتحريكِ النفوسِ لعلَّ وعسى أن يكونَ بذلك الأثرُ الأعمقُ لأجلِ مكافحةِ الجريمةِ والعنفِ. والحقيقةُ وإن كنت لا أُسئ الظنَّّ بأحدٍ ولا بنيتهِ الحسنةِ، ولكن هذا لا يبررُ له أن يخالفَ أركانَ الخطبةِ وشروطَ انعقادها ولا سننها. حيث قال جمهورُ الفقهاء ببطلانِ صلاةِ الجمعةِ في حالِ اقتصارِ الخطيبِ على خطبةٍ واحدةٍ، وقالوا بوجوبِ إعادة الصلاة ظهرًا مع التوبة إلى الله تعالى؛ وقال الحنفيةُ بالصحةِ إذا قال الخطيبُ كلاماً مفيدًا، ولكنهم اعتبروا ذلك إساءةً. لذا وبناءً عليه أنصح إخواني الخطباء بعدم تعريض عبادةِ الناسِ للبطلانِ والإثم، بدعوى ابتكارِ أساليبَ جديدةٍ وجذابةٍ لتغييرِ المنكر. المنكرُ لا يتغيرُ بمخالفةِ الشرعِ ولا بتركِ السنَّةِ، بل هذه فرصتُكم أيها الخطباء والوعاظ للتذكيرِ واستثمارِ خطبةِ الجمعةِ للتغييرِ، وإلا فما الفائدةُ والثمرةُ العلمية التي يتركها الخطيبُ يوم الجمعة إذا صعد المنبر وقال: ” ليس لدي ما أقول وأقم الصلاة”؟!!! وكلّي رجاءٌ ألا يأخذ أحدٌ من إخواني الخطباء النصيحةَ بشكلٍ شخصيٍ، وإنما هي للتذكيرِ ومنعِ انتشار هذه البدعة!!

3- ثالثاً: كان من هدي المصطفي عليه الصلاة والسلام تقصيرُ الخطبةِ وإطالةُ الصلاة، فعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ) رواه مسلم. والمَئِنَّةُ هي العلامةُ، أي إن قصرَ الخطبةِ وطولَ الصلاةِ علامةٌ على فقهِ الخطيبِ.

وعن عبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنه قال: (كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يطيلُ الصَّلاةَ ويقصُرُ الخطبةَ) رواه النسائي وصححه العلامة الألباني.

4- رابعاً: الصحيحُ من أقوالِ أهلِ العلمِ أن ركنَ الخطبةِ الوحيدُ هو أقلُّ ما يصدقُ عليه اسمُ الخطبةِ عُرفاً، فالواجبُ ما يقَعُ عليه اسمُ الخُطبةِ، وهو مذهبُ المالِكيَّة واختيارُ داودَ الظاهريِّ، وبه قال جماعةٌ من الفقهاء منهم أبو يوسفَ ومحمَّدُ بنُ الحسنِ من الحَنَفيَّة، والشيخُ ابن حزمٍ وشيخُ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [ولا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت، بل لا بد من مسمَّى الخطبةِ عرفاً، ولا تحصلُ باختصارٍ يفوت به المقصودُ] الاختيارات ص 79.

وبناءً على ما سبق فإن تقصيرَ الخطبةِ لا ينبغي أن يكون ماحقاً، فلا يستفيد المصلون من الخطبة شيئاً، فإن فعلَ الخطيبُ ذلك لم يكن من الفقه في شيءٍ، والخطيبُ الذي تستغرقُ منه الخطبةُ مع الصلاة وقتاً يسيراً، ليس بفقيهٍ، بل هو جاهلٌ، لأن الفقهَ هو في تقصيرِ الخطبة، وإطالةِ الصلاةِ، وليس في محقِهما!

ومن المعلوم أن المصلين لم يأتوا إلى المسجدِ لأجلِ رؤيةِ الخطيب، ولا لسماعِ صوتهِ، بل جاءوا لأداءِ فريضةِ صلاةِ الجمعةِ بخطبتيها، وليسمعوا موعظةً، أو يتعلموا حكماً شرعياً، ونحو ذلك، ولهذا فإن واجبَ الخطيبِ مراعاةَ القصدِ والتوسطِ في ذلك الأمر، فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قَوْلُهُ (فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا) أَيْ بَيْنَ الطُّولِ الظَّاهِرِ وَالتَّخْفِيفِ الْمَاحِقِ] شرح النووي على مسلم 6/159.

وقال الإمام النووي أيضاً: [يستحبُ تقصيرُ الخطبةِ للحديث المذكور، وحتى لا يملوها، قال أصحابنا: “ويكونُ قصرُها معتدلاً، ولا يبالغُ بحيث يمحقُها] المجموع 4/358.

5- خامساً: ينبغي أن يُعلم أن صلاةَ الجمعةِ وخطبةَ الجمعةِ من العبادات باتفاق العلماء، ومعلومٌ أن الأصلَ في بابِ العباداتِ التوقيفُ أو الحظرُ، أي إن الأصلَ في بابِ العبادات هو إتباعُ الرسول صلى اللّه عليه وسلم بدون زيادةٍ ولا نقصانٍ، بل نفعلُها كما ثبتت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، فليس لأحدٍ مهما كان أن يزيدَ في العبادةِ شيئاً ولا أن يُنقص منها شيئاً، وقد أمرَ الرسولُ صلى اللّه عليه وسلم في حديثين صحيحين مشهورين بالالتزام بالعبادة كما فعلها هو عليه الصلاة والسلام. أولهما: قولهُ صلى اللّه عليه وسلم: (صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) رواه البخاري، فهذا الحديثُ الصحيحُ الصريحُ يقررُ هذا الأصل: وهو لزومُ الاتباعِ في الصلاةِ كما كان النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم يُصلي، فنؤدي الصلاةَ كما وردت عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ.

ثانيهما: قولُ الرسول صلى اللّه عليه وسلم: (خُذُوا عني مَناسِكَكم) رواه مسلم، وفي روايةٍ صحيحةٍ: (لِتَأْخُذُوا عَنِّي مناسِكَكُمْ). قال الإمام النووي:[وأما قوله صلى اللّه عليه وسلم: (لِتَأْخُذُوا مناسِكَكُمْ) فهذه اللامُ لامُ الأمرِ، ومعناهُ خذوا مناسككم، وهكذا وقعَ في رواية غيرِ مسلم، وتقديرهُ هذه الأمورُ التي أتيتُ بها في حجتي من الأقوالِ والأفعالِ والهيئاتِ هي أمورُ الحج وصفتهِ، وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس. وهذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ في مناسكِ الحجِّ، وهو نحو قوله صلى اللّه عليه وسلم: (صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)] شرح النووي على صحيح مسلم 3/420.

فهذان الحديثان يدلان على أن الأصلَ في العبادات هو التوقيفُ على رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، فلا يثبت شيءٌ من العبادات إلا بدليلٍ من الشرع.

ومما يؤيدُ هذا الأصلَ ويدلُ عليه وقوفُ الصحابةِ رضي الله عنهم ومَنْ بعدهم من السلفِ عند ما حدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك:

(1) عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (طُفتُ مع عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، فلمَّا كنتُ عِندَ الرُّكنِ الذي يَلي البابَ ممَّا يَلي الحَجَرَ، أخَذتُ بيدِه لِيَستلِمَ، فقال: أمَا طُفتَ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قلتُ: بلى، قال: فهل رأيتَه يَستلِمُه؟ قلتُ: لا، قال: فانفُذْ عنك؛ فإنَّ لك في رسولِ اللهِ أُسوةً حسنةً) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

(2) وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّهُ طافَ مع مُعاويةَ بالبَيتِ، فجعَلَ مُعاويةُ يَستَلِمُ الأركانَ كُلَّها، فقال له ابنُ عبَّاسٍ: لِمَ تَستَلِمُ هذَينِ الرُّكنَينِ ولم يَكُنْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَستَلِمُهما؟ فقال مُعاويةُ: ليس شَيءٌ مِنَ البَيتِ مَهجورًا. فقال ابنُ عبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فقال مُعاويةُ: صَدَقتَ!) رواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح، والعملُ على هذا عند أكثرِ أهلِ العلمِ أن لا يُستلمَ إلا الحجرُ الأسود والركن اليماني.

(3) وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كلُّ عبادةٍ لم يتعبدُها أصحابُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فلا تعبدوها، فإن الأولَ لم يدعْ للآخرِ مقالًا، فاتقوا اللهَ يا معشرَ القراءِ وخذوا طريقَ من كان قبلكم] رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، ومحمد بن نصر في السنة، وأبو نعيم وابن عساكر.

(4) وعن نافع قال: أنَّ رجلًا عطَسَ إلى جنبِ ابنِ عمرَ، فقال الحمدُ للهِ والسلامُ على رسولِ اللهِ، قال ابنُ عمرَ: وأنا أقولُ الحمدُ للهِ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وليسَ هكذا عَلَّمَنَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، علَّمَنَا أن نقولَ: الحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ] رواه الترمذي والحاكم وقال الحاكم: صحيح الإسناد غريب ووافقه الذهبي، وحسنه العلامة الألباني.

(5) وعن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يُكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه فقال: [يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟! قال: لا ولكن يعذبك على خلاف السنة] رواه البيهقي وعبد الرزاق والخطيب. قال الذهبي إسناده قويٌ، وصححه العلامة الألباني.

(6) وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال:[ جاء رجُلٌ إلى مالِكِ بنِ أنسٍ رحِمه اللهُ، وسأله: يا أبا عبدِ اللهِ، مِن أين أُحرِمُ؟ قال: مِن ذي الحُلَيفةِ مِن حيثُ أحرَم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي أُريدُ أن أُحرِم مِن المسجِدِ. فقال: لا تفعَلْ، قال: فإنِّي أريدُ أن أُحرِمَ مِن المسجِدِ مِن عندِ القَبرِ، قال: لا تفعَلْ؛ فإنِّي أخشى عليك الفِتنةَ، فقال: وأيُّ فِتنةٍ هذه؟! إنَّما هي أميالٌ أزيدُها! قال: وأيُّ فِتنةٍ أعظَمُ مِن أن ترى أنَّك سَبَقْتَ إلى فَضيلةٍ قصَّر عنها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! إنِّي سمعْتُ اللهَ يقولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}] ذكره الخطيب البغدادي والشاطبي في الاعتصام. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: [ما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلحَ أولها].

(7) وقال العلامة الألباني: [روى الطبراني بسندٍ صحيحٍ عن طلحةَ بنِ مُصَرِّفٍ قال: [زاد ربيعُ بن خيثم في التشهد وبركاته:”ومغفرته”! فقال علقمةُ نقفُ حيث عُلِّمنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وعلقمةُ تلقى هذا الاتباع من أستاذه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد ثبت عنه أن كان يعلمُ رجلاً التشهدَ فلما وصل إلى قوله: “أشهد أن لا إله الله” قال الرجل: وحده لا شريك له. فقال عبد الله: هو كذلك، ولكن ننتهي إلى ما عُلِّمنا] أخرجه الطبراني في الأوسط بسندٍ صحيح.] انظر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 145. وغير ذلك.

وأستغربُ من كلامِ بعضِ المشايخ أن الخطبةَ الواحدةَ والقصيرةَ جداً قد حققت المقصدَ من الصلاةِ، وأن للوسيلة حكمَ المقصد، فهذا كلامٌ باطلٌ شرعاً، لمخالفته للهدي النبوي، ولأن الصلاةَ أمرٌ توقيفي، مرجعهُ إلى النقلِ، وما دام أن النقلَ ثابتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فليس لنا إلا أن نقولَ سمعنا وأطعنا، ولا مدخلَ للعقل فيه، فمن المعلوم أن الأمورَ التوقيفية، لا مدخلَ للعقلِ فيها، وخاصةً أن الخطبةَ الواحدةَ والقصيرةَ جداً قد خالفت السُنَّةَ النبوية مخالفةً صريحةً.

 ولا يصحُ القولُ بأن الخطبةَ الواحدةَ والقصيرةَ جداً تعملُ صدمةً معينةً توصلُ فكرةً أكثر من كثيرِ الكلام، فالفكرةُ والانتشارُ الاعلامي “الترند” على مواقع التواصلِ من “فيس بوك وواتساب” وغيرها أوصل الفكرة تماماً!؟ وفعلُ الخطيب ِذلك مرةً واحدةً ليحدثَ صدمةً أو هزةً في انتباهِ وتفكيرِ الناس!؟

والسؤالُ هل خطيبُ الجمعة يبحثُ عن “الترند”؟! وهل هذا من مقاصدِ خطبةِ الجمعة؟!

والخطبةُ الواحدةُ والقصيرةُ جداً مخالفةٌ للهدي النبوي، فلا يفعلها لا مرةً ولا مراتٍ، والتبريرُ بالمرةِ الواحدةِ، كلام باطلٌ شرعاً.

6- سادساً: إذا تقرر هذا فلا بدَّ أن نُذَكِّرَ خطباءَ الجمعةِ خاصةً، والمشايخ عامةً بهدي المصطفي صلى الله عليه وسلم في خطبةِ الجمعة، ولا شكَّ أن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وأن خيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن مَنْ يطلعُ على هدي المصطفي عليه الصلاة والسلام ليعجبُ مما يفعلهُ كثيرٌ من خطباءِ الجمعةِ في زماننا هذا، فخطبةُ النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقريراً لأصولِ الإيمان، من إيمانٍ بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكرِ الجنة والنار، وما أعدَّ اللهُ لأوليائه وأهلِ طاعته، وما أعدَّه لأعدائهِ وأهلِ معصيته، فتُملأُ القلوبُ من خطبتهِ إيماناً وتوحيداً، كما كان عليه الصلاة والسلام يعلمُ الصحابةَ في خطبه قواعدَ الإسلامِ وشرائعه ويأمرهم وينهاهم…إلخ.

وكان عليه الصلاة والسلام يقرأُ آياتٍ من القرآن الكريم في خطبته أحياناً، يقرأُ سوراً من القرآن كسورةِ (ق) كما ثبت في الحديث عن أم هشام بنت حارثـة بن النعمان رضي الله عنهما قالت: (ما أَخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلَّا عن لِسَانِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَومِ جُمُعَةٍ علَى المِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ) رواه مسلم. هذا بعضُ ما جاء في الهدي النبوي في خطبةِ الجمعة، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب “زاد المعاد في هدي خير العباد” للعلامة ابن القيم يرحمه الله.

تلكمُ الصورةُ المشرقةُ التي كان عليها هديُ المصطفي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة. وإذا نظرنا إلى الصورةِ الواقعةِ في مساجدنا فماذا نرى؟ إن بعضَ الخطباء لا يكادون يقرؤون آيةً من القرآن في خطبهم، ويكادون لا يذكرون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونرى أن كثيراً منهم يركزون خطبهم على موضوعٍ واحدٍ وكأن الإسلامَ محصورٌ فيه فقط، فمثلاً نجدُ كثيراً من الخطباء لا يخطبون إلا في الموضوع السياسي للأمة، أضف الى ذلك ما يضيفهُ بعضُ الخطباء على خطبهم من السبابِ والشتائم. ولا شكَّ أن الموضوعَ السياسي مهمٌ جداً، ولكن الإسلامَ ليس مقصوراً عليه، وخاصةً أن كثيراً من الكلامِ الذي يُقال هو مجردُ كلامٍ نظريٍ لا يجدُ طريقه إلى أرضِ الواقع، وإنما العمليةُ مجردَ تنظيرٍ فلسفيٍ فقط، والناسُ في زماننا يحتاجون إلى التبصيرِ في أمورِ دينهم كلِها، فيجبُ على الخطباء أن يتناولوا مختلفَ قضايا المسلمين وما يهمهم في الدنيا والآخرة.

أضف إلى ذلك أن كثيراً من الخطباءِ يستشهدون بالأحاديث دون التثبت من صحةِ نسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فكم مرةً سمعنا الخطيب يملأ فمه قائلاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا…ويكون الحديثُ مكذوباً على الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضعيفاً واهياً، فواجبُ الخطيب أن يتأكد من درجة الأحاديث التي يستشهدُ بها في خطبته بالرجوع إلى كتب أهل الحديث.

ومن الأمور المؤسفة أن كثيراً من الخطباء يسكتونَ عن البدعِ التي تقعُ في المساجد والمخالفة للهدي النبوي دون أن يحركوا ساكناً لإنكارها، بل إن بعضهم يعملُ على نشرها قولاً وفعلاً.

ومن الأمورِ اللافتة للنظرِ أن بعضَ الخطبِ تكون على شكلِ البيانات الرسمية والمراسيم الحكومية، وليس لها نصيبٌ من الخطبة إلا في الاسم فقط. هذا فضلاً عن كثرةِ الأخطاء النحوية، والأخطاء في تلاوةِ الآياتِ القرآنية التي يقع فيها كثيرٌ من الخطباء.

وختاماً أذكرُ حديثَ العِرْباضِ بن ساريةَ رضي الله عنه قال:

(صلى بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ذاتَ يومٍ، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظةً بليغةً، ذرفت منها العيونُ، ووجِلت منها القلوبُ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! كأن هذهِ موعظةُ مُودِّعٍ، فماذا تعهدُ إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى اللهِ والسمعِ والطاعةِ وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ المهديّين الراشدين تمسَّكوا بها، وعَضَّوا عليها بالنواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وهو حديثٌ صحيحٌ كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/871.

والله الهادي إلى سواء السبيل

Please follow and like us:
د. حسام الدين عفانة
فقيه ومفتي وكاتب فلسطيني، وأستاذ الفقه والأصول في جامعة القدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب