بحوث ودراسات

د. حسام الدين عفانة يكتب: صفقاتُ انتقالِ لاعبي كرة القدم بمبالغ طائلةٍ

لا شك أن الرياضةَ في الإسلامِ للرجالِ والنساءِ مباحةٌ بشكلٍ عامٍ بشروط وضوابط شرعية، والرياضةُ في الإسلام ليست من الضروريات، ولا من الحاجيات، ولكنها من التحسينيات، أي من الأمور التكميلية.

إن صفقات انتقال اللاعبين بين الأندية الرياضية أو بيعهم كما يُعبر بعضُ الإعلاميين، والأموال الطائلة التي تُدفع لهم، والمبالغةُ فيها تُعتبر من النوازلِ المعاصرةِ التي تحتاجُ لرؤيةٍ شرعيةٍ مؤصلةٍ، لأنها تثيرُ علاماتِ استفهامٍ كثيرةٍ، وخاصةً مع ضخامة المبالغ التي تُدفع من أموالِ المسلمين، للاعبين وأنديتهم التي ينتقلون منها، فقد ذكرت وسائلُ إعلامٍ مختلفةٍ أن أنديةً خليجيةً قد أنفقت مئات الملايين من الدولارات حتى الآن على صفقات شراء لاعبين عالميين، وآخرها كان راتب اللاعب «نيمار» مع نادي الهلال السعودي، حيث بلغ راتبهُ خلال موسمين 300 مليون يورو!؟ ويضافُ إلى ذلك الإنفاقُ الضخمُ من أثرياء العرب، لشراءِ نوادٍ رياضيةٍ في أوروبا، كنادي مانشستر سيتي وباريس سان جيرمان ونيوكاسل يونايتد وشيفيلد يونايتد وليرس البلجيكي وإيرجوتليس اليوناني وألميريا الإسباني ونادي أستون فيلا وغيرها، ويقدر هذا الإنفاق بمليارات الدولارات؟!

ولا شكَّ لدي أن هذا الإنفاق المبالغ فيه من المحرماتِ في دين الإسلام، وهذا من الإسرافِ والتبذيرِ المحرم شرعاً، وهذا إنفاقٌ للمال في غير مقاصدهِ الشرعية، وأنه يوجدُ حاجاتٌ حقيقيةٌ للمسلمين، يجب أن ينفق فيها هذا المال، عِوضاً عن هذا الإسراف والتبذير.

إننا ندعو إلى توجيه هذه الأموال الطائلة في مصالح الأمة المسلمة، سواء كان ذلك في البلدان التي دفعت تلك الأموال، أو في غيرها من بلدانِ المسلمين الغارقةِ في الجوعِ والفقرِ والتخلفِ، والتي ترزح تحت ضغوط المؤسسات الدولية المقرضة كالبنك الدولي وغيره.

وندعو إلى توجيه هذه الأموال الطائلة لرعاية الشباب المسلمين وتربيتهم تربيةً رياضيةً تُفيدهم اجتماعياً وصحياً.

وندعو إلى توجيه هذه الأموال الطائلة وإنفاقها على ملايين المحتاجين من الفقراء والمساكين في مختلف بلدان المسلمين.

إن هذا الإنفاقَ المبالغ فيه على لاعبي كرة القدم، وعلى شراءِ الأندية الرياضية الأجنبية، يُعتبر من إتلافِ المالِ، ويُناقضُ ما قصده الشارعُ الحكيمُ من حفظِ المالِ، وهو مخالفٌ شرعاً للنصوصِ الشرعيةِ الواردةِ في النهي عن إضاعةِ المالِ، وفي النهي عن الإسرافِ والتبذيرِ.

وهذا الإنفاقُ المبالغُ فيه على لاعبي كرة القدم، وعلى شراءِ الأندية الرياضية الأجنبية، يُعتبر أيضاً من السَّفهِ، والسَّفهُ عند الفقهاء، هو التصرفُ في المالِ على خلافِ مقتضى الشرعِ والعقلِ، وقد جاءت أدلةٌ كثيرةٌ من كتاب الله تعالى، ومن سنةِ نبيه صلى الله عليه وسلم، تدلُ على وجوبِ المحافظةِ على المالِ، وقد نهت شريعتُنا الغراءُ عن الإسرافِ والمبالغةِ في الأمورِ كلها، قال تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} سورة الأعراف الآية 31.

وقال تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} سورة الاسراء الآيتان26-27.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} سورة الفرقان الآية 67.

وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} سورة الإسراء الآية 29.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُوا، وتَصدَّقوا، والبَسُوا، ما لم يُخالِطْه إسرافٌ ولا مَخِيلَةٌ) رواه النسائي وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/246.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، ويَكْرَهُ لَكُمْ: قيلَ وقالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وإضاعَةَ المالِ) رواه مسلم.

قال الإمام النووي: [وَأَمَّا “إِضَاعَةُ الْمَالِ” فَهُوَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَعْرِيضُهُ لِلتَّلَفِ، وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ إِفْسَادٌ، وَاللَّهُ لَا يحبُ الْمُفْسِدِينَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَ مَالُهُ تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ.] شرح النووي على صحيح مسلم 4/375-377.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إضاعة المال):[قَوْله: (وَإِضَاعَة الْمَال) تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِقْرَاض أَنَّ الْأَكْثَر حَمَلُوهُ عَلَى الْإِسْرَاف فِي الْإِنْفَاق, وَقَيَّدَهُ بَعْضهمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْحَرَام, وَالْأَقْوَى أَنَّهُ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ وَجْههِ الْمَأْذُون فِيهِ شَرْعًا، سَوَاء كَانَتْ دِينِيَّة أَوْ دُنْيَوِيَّة فَمَنَعَ مِنْهُ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْمَال قِيَامًا لِمَصَالِح الْعِبَاد, وَفِي تَبْذِيرهَا تَفْوِيت تِلْكَ الْمَصَالِح, إِمَّا فِي حَقّ مُضَيِّعهَا وَإِمَّا فِي حَقّ غَيْره] فتح الباري 10/501.

يقول الدكتور محمد رأفت عثمان ـ أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر: [إن توجيه المال لشراء لاعبي الكرة نوعٌ من التبذير والإسراف، الذي ترفضهُ الشريعةُ الإسلاميةُ، وتوجيهُ ملايين الأموال لشراء لاعبي كرة القدم، يدلُ على وجودِ خللٍ في ناحيتين: الأولى: التقديرُ المبالغُ فيه لأمرٍ هو في حقيقته من الكماليات، التي يكون من الخبلِ الإنفاقُ عليها بهذه الصورة. الثانية: الخللُ في جانب الجماهير نفسها التي حولت هذه اللعبة إلى زادٍ يقتاتون منه ويتعايشون عليه، وأصبح في اعتقادهم أن مشاهدةَ أي مباراةٍ لكرة القدم أهمُ من كثيرٍ من الأعمال.]

ويقول الدكتور أحمد عمر هاشم، رئيس جامعة الأزهر السابق: [هناك أولويَّاتٌ وضروراتٌ في المجتمعات الإسلامية، يجبُ توجيه الملايين التي تُنفق على بيع وشراء لاعبي كرة القدم إليها، فهناك آلافُ- بل ملايين- المسلمين الذين لا يجدون المأوى ويفترشون الأرض وينامون على الأرصفة، وهم بالطبع أولى بهذه الملايين التي يتم إنفاقها على شراء اللاعبين.]

ويقول الدكتور عمر مختار القاضي ـ الأستاذ بجامعة الأزهر: [إن إنفاقَ الملايين على شراء اللاعبين، في الوقت الذي يوجدُ فيه ثلثا سكان العالم تحت خط الفقر، يؤدي إلى ظهور التطرف نتيجة عدم الشعور بالعدالة، فيتمُّ استفزازُ آلاف الأشخاص الذين يكدون في العمل ولا يحصلون على ما يوازي تعبهم، مقابل ملايين الجنيهات التي توجه لشراء لاعبي كرة القدم.]

وقد سبق لعددٍ من علماء الإسلام أن حرموا هذا الإسراف والتبذير في إنفاق الأموال الطائلة على اللاعبين، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتي السعودية، في فتوى له منذ مدةٍ من الزمن، وإن كنا لم نسمع له قولاً في الفترة الأخيرة؟! فقد سبق له أن قال في قضية لاعبٍ دُفع له مبلغٌ كبيرٌ من المال: [إنه إنفاقٌ ما أُريد به وجهُ الله، وأنه إنفاقٌ في الباطل وتبذيرٌ، وأن صرف الأموال بهذا الشكل، سيكون وبالاً على أصحابه يوم القيامة، وحسرةً وندامةً؛ لأنه لم ينفقها في وجهٍ شرعيٍ يحبه اللهُ ورسولهُ، ودفعُ مبلغ 20 مليوناً ثم رفعه إلى 42 مليون ريال مقابلَ اشتراكِ لاعبٍ في أحد الأندية، يُعَدُّ إنفاقاً غيرَ مبررٍ وبدون موجبٍ شرعي.]

وقد أيدت لجنةُ الفتوى بالأزهر الشريف في حينه برئاسة الشيخ عبد الله مجاور الفتوى التي أصدرها مفتي المملكة العربية السعودية بتحريم عملياتِ الإسرافِ المبالغِ فيها بإنفاقِ الأموال على شراءِ لاعبي كرة القدم، عبر انتقالهم بين الأندية، بموجب عقود الاحتراف التي يبرمونها. وجاءت الفتوى الأزهرية على خلفية قضية انتقال لاعب المنتخب السعودي ياسر القحطاني الى نادي اتحاد جدة مقابل 42 مليون ريال، تكفل المليونير السعودي منصور البلوي بدفعها، ما جعل المفتي السعودي يخصص خطبةَ صلاةِ الجمعةِ للنهي عن الإسراف في شراء عقود اللاعبين، والتحذيرِ من عواقب إنفاق الأموال في صفقات انتقال اللاعبين بين الأندية.]

وقال الشيخ د. يوسف القرضاوي: [وإن كان لكرة القدم أهمية خاصة من ناحية تحمس الجماهير لها، واشتغالهم بها، وانقسامهم حولها، حتى لتكاد تكون في بعض البلدان “وثنًا يُعبَد”، وهذا ما يجبُ التحذيرُ منه، فإن كل شيء يزيدُ عن حدِّهِ، ينقلبُ إلى ضده، وأن الأصلَ في اللهو كله: أنه مباح، ما لم يبلغ حدَّ الإسراف، كما قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وكلُ المباحات مقيدةٌ بعدم الإسراف، فإذا بلغت حدَّ الإسراف؛ استحالت إلى الحرام، بل العبادةُ إذا غلا فيها الإنسانُ أنكرها الشرع.]

وقال الشيخ فيصل مولوي: [مما لا شك فيه أن المباريات الرياضية تأخذُ اليوم حجمًا أكبرَ بكثيرٍ مما يلزمُ خاصةً في بلاد المسلمين، وتستعملها كثيرٌ من الأنظمةِ لإبعادِ الناسِ عن المشاركة السياسية، ولتنفيس المشاعر المحتقنة بسبب الكثير من الممارسات الشاذة. إننا أمةٌ منكوبةٌ وأمةٌ ممزقةٌ وأمةٌ متخلفةٌ، هذه قضاياها الأساسية التي يجب أن تبذل فيها الجهود قبل هذه المظاهر المباحة؛ ولذلك، فإني أدعو الشباب خاصة إلى أن يكون أكثرَ جديةً في حملِ همومِ المجتمع وقضايا الأمة، وإلى أن يكون أكثرَ إيجابيةً في العملِ المنتج، وألا يعطي لمثلِ هذه الأعمال المباحة أكثرَ من حجمها الطبيعي المفروض في حياته الشخصية وفي حياة الأمة.]

إن كرةَ القدم تُستغلُ من الأنظمة الحاكمة لإلهاء الشعوب المطحونة، وشغلها في قضايا تافهة، عوضَ الاشتغال بقضايا الأمة الإسلامية الحقيقية، كقضايا ثروات الأمة وحقوقها وسيادتها والظلم والاستبداد السياسي وأراضيها المحتلة وفقرها وبطالتها ومشكلاتها الاقتصادية الخطيرة، وتعاني الأمةُ الإسلامية من فسادٍ الحكام وحاشيتهم، وتعاني من تخلفٍ عن ركبِ الأممِ في كثيرٍ من المجالات؟ وسياسةُ إلهاءِ الأمةِ المسلمةِ بالرياضة مخططٌ يهودي، وصنيعةٌ صهيونيةٌ، كما ورد في البروتوكول الثالث عشر من بروتوكولات حُكَمَاء صهيون.

وهذه الأموالُ الطائلةُ التي تُنفق لاستيرادِ لاعبين أجانب يركضون خلفَ جلدةٍ منفوخةٍ، كان الأولى أن تُنفق مثلاً على استردادِ العقولِ المسلمةِ المهاجرةِ في الدول الغربية، التي تعتبرُ من أكثر الدولِ استقطاباً وجاذبيةً للعقول المهاجرة ذات الكفاءة العالية والتخصصات النادرة. وقد اندفعت العقولُ المسلمة إلى الهجرةِ نحو الغرب، نتيجةً للحوافز والامتيازات العديدة التي تجدُها هناك، بما فيها الرواتب العالية، والاستقرار الوظيفي والاجتماعي، والمكانة البارزة التي يوفرها الغرب للعلماء، والشهرةُ التي تتميز بها جامعاته. وقد أشارت بعض الإحصاءات إلى أن هناك 60% من العقولِ المسلمةِ المهاجرة تخدمُ في الدول الغربية، مما انعكسَ إيجاباً لصالح هذه الدول واقتصاداتها، حيث أسهم المهاجرون علمياً وفكرياً ووظيفياً وثقافياً واجتماعياً، وفتحت اكتشافاتهم ودراساتهم واختراعاتهم وإبداعهم وابتكاراتهم آفاقاً جديدة، مما أغنى الحياة العلمية هناك وجعلها تحقق الصدارة. وتعود هجرةُ العقولِ المسلمة من بلدانها الأم إلى الولايات المتحدة وأوروبا، إلى الظروف الصعبة التي فرضتها الأنظمةُ الفاشلةُ على أصحاب العقول المسلمة في أوطانهم، ومن أهمها تدهورُ الأوضاع السياسية والمعيشية والاقتصادية، والافتقارُ إلى حياةٍ علميةٍ ذات ظروف سليمة وحوافز مشجعة.]

وختاماً فإن أمةَ الإسلامِ لن تنتصرَ بلاعبين يركضون خلفَ جلدةٍ منفوخةٍ تُداسُ بالأقدامِ، ولكن أمةَ الإسلامِ ستنتصرُ لما تتحررُ من الطواغيتِ عبيدِ الغرب وأعوانهم، ستنتصرُ أمةُ الإسلامِ عندما تنبذُ عبادةَ العبادِ، وتتجهُ إلى عبادةِ ربِّ العبادِ الواحدِ القهار، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}.

والله الهادي إلى سواء السبيل

د. حسام الدين عفانة

فقيه ومفتي وكاتب فلسطيني، وأستاذ الفقه والأصول في جامعة القدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى