بحوث ودراسات

د. حسام الدين عفانة يكتب: يا أهلنا في بيتِ المقدس عظِّموا المسجدَ الأقصى

نَشَدْتُكم اللهَ يا أهلنا في بيتِ المقدس وأكنافِ بيت المقدس، أن اتقوا اللهَ في المسجدِ الأقصى المبارك، ألا يكفينا انتهاكات المحتلين المتكررة لحرمة المسجد الأقصى المبارك، واللهِ لا أرضى لكم أن تشاركوا في انتهاكات حرمة المسجد الأقصى المبارك؟!

إن هدفي من هذا النداء، وهذه المناشدة، هو إحياءُ تعظيمِ المسجد الأقصى المبارك في نفوس أهلِ بيتِ المقدس، وأكنافِ بيت المقدس، كي تبقى للمسجد الأقصى المبارك هيبتُهُ وحرمتُهُ في نفوس المسلمين، نظراً لما يتمتع به المسجد الأقصى المبارك من مكانةٍ عظيمةٍ في ديننا، ولارتباطه الوثيق بعقيدتنا، فهو أولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين، ومسرى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ عُرِج به إلى السموات العُلى، قال الله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ونظراً لارتباطه الوثيق أيضاً بأخويه المسجد الحرام والمسجد النبوي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجد الرسول ومسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم.

إننا أهلُ بيتِ المقدس وأكنافِ بيت المقدس، بحاجةٍ ماسَّةٍ لإدراكِ حقيقةِ مكانةِ المسجد الأقصى المبارك، ومقدارِ الفضلِ الذي نحظى به بوجودنا في بيت المقدس وأكنافه، وإن كثيراً من المسلمين يتمنون رؤيةَ المسجد الأقصى المبارك وزيارته، ولا يتمكنون من ذلك، فقد أخبر الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي زمانٌ يتمنى المرءُ رؤيةَ المسجد الأقصى المبارك؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال:

(تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنِعمَ المُصلَى هو، وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ – حبلُ الفرس- مِنَ الأَرْضِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعاً) رواه الطبراني والطحاوي والبيهقي والحاكم. وصححه العلامة الألباني، بل قال عنه إنه أصح ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الأقصى.

إن المكانةَ العظيمةَ للمسجد الأقصى المبارك توجبُ على أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، المحافظةَ عليه، والدفاعَ عنه، وتعظيمَ شأنه، ومنع وقوع المنكرات فيه، فهو من أعظم بيوت الله عز وجل، وبيوتُ الله حقُها التعظيم، قال الله عز وجل:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}والبيوت المذكورة في الآية الكريمة هي المساجد كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري ورجحه القرطبي في تفسيره، ومن المقرر عند أهل العلم أن الأصل في المساجد أنها تُبنى لذكر الله تعالى وإقامةِ الصلاة وقراءةِ القرآن وتدريسِ العلم الشرعي، أي إنها سوقُ الآخرة، ولم تُبنَ المساجدُ لتكون سوقاً للدنيا، أو لتكون معرضاً لأزياء النساء، وزينتهن، ولا محلاً للمهاترات والصياح والسُّباب والشتائم، عن بريدة رضي الله عنه (أن رجلاً نَشَدَ في المسجد – أي طلب ضالةً له – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ لا وجدت، إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له) رواه مسلم.

قال الإمام النووي:[وقوله صلى الله عليه وسلم (إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له) معناه لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها] وقال الإمام القرطبي بعد أن ذكر حديث بريدة السابق:[وهذا يدل على أن الأصل ألا يُعمل في المسجد غيرُ الصلوات والأذكار وقراءة القرآن.

وكذا جاء مفسراً من حديث أنس قال:(بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابيٌ فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه- أي اكفف -؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه دعوه. فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول ولا القَذَر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)…

وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوتَ رجلٍ في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت!] وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:(اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف السترَ وقال: ألا إن كلكم مناجٍ ربَّه، فلا يؤذي بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضُكم على بعضٍ في القراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داود وصححه العلامة الألباني.

 وقد همَّ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه بتعزير من يرفعون أصواتهم في المسجد، فقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال:(كنت قائماً في المسجد فحصبني رجلٌ -رماني بحصاةٍ- فنظرتُ فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ومن القواعد المقررة شرعاً وجوبُ تعظيم شعائر الله، يقول الله تعالى:{ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}ويقول تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ولا شك أن المساجدَ داخلةٌ في عموم شعائر الله، ومن تعظيمها منعُ الفوضى والصخب والصياح فيها، ومنع وقوع المنكرات فيها، والمحافظة على نظافتها والاعتناء بها بجميع وجوه العناية. فالمساجد بيوت الله عز وجل، قال الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} إن الواجب الشرعي يقتضي من كل قاصدٍ للمسجد الأقصى المبارك، أن يتأدب بالآداب الشرعية لبيوت الله عز وجل، فعندما تطأُ رِجْلُهُ بابَ المسجد عليه أن يتذكر أنه في ضيافة الله عز وجل وزيارة بيته، فعن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ توضأ في بيته فأحسنَ الوضوءَ، ثم أتى المسجدَ، فهو زائرُ الله تعالى، وحقٌ على المزور أن يُكرم زائرَه) رواه الطبراني، وحسنه العلامة الألباني.

وعليه أن يتذكر أنه في أحبِّ البقاع إلى الله عز وجل، وأنه يحرم عليه أن يؤذي أهل المسجد بكلمةٍ، كرفع الصوت بالكلام أو بفعلٍ كتخطي الرقاب، ولا شك أن إيذاء المصلين أعظمُ من إيذاء الناس خارج المسجد، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.

وليعلمَ المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أن الرباط في المسجد الأقصى المبارك وعمارته المادية والمعنوية، ليس للمفاخرة والمباهاة، وليس مجرد شعورٍ فقط، بل يقتضي ويوجب تعظيمه واحترامه بشكلٍ عملي، بالالتزام بالأحكام الشرعية، فإن ذلك دليلٌ صادقٌ على الإيمان، قال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}.

والله الهادي إلى سواء السبيل

د. حسام الدين عفانة

فقيه ومفتي وكاتب فلسطيني، وأستاذ الفقه والأصول في جامعة القدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى