كشفت الحرب الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني كيف تدير القوى الدولية المتحكمة في المشهد العالمي المشاريع الوظيفية عند تعارضها ودخولها في حالة الحرب المباشرة حيث يدخل ذلك في علم وفن إدارة الأزمات والذي برعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير طوال تصدرها النظام الدولي فهي ليست معنية بإنهاء الأزمات الدولية ولكنها معنية بالتحكم في خيوطها والتأثير فيها متى وكيفما أرادت كما عبر عن ذلك وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسنجر. فالمشروع الصهيوني رأس الرمح في المشروع الغربي الصليبي للتحكم في المنطقة وتفتيتها والسيطرة على مواردها والمشروع الصفوي الإيراني أداة من أدوات التفتيت الطائفي وفزاعة التخويف لدول الخليج العربية ولمنع الشعوب المسلمة السنية من التحرر والنهضة والقيام بالملفات القذرة التي لا تريد القوى الدولية القيام بها كما حصل في قمع الثورات وتدمير الشعوب العربية ولذا فتح المجال لإيران ومشروعها بالتمدد والتوسع في عدة دول عربية تحت الرعاية الأمريكية ولكن عمليا اصطدم المشروعان الوظيفيان اصطداما حقيقيا بينهما وهو أمر متوقع بحكم تطلعات كل مشروع لمزيد من النفوذ خارج المساحات المسموح بها وهنا يأتي دور المخدم والمشغل الدولي لضبط حدود ومسارات المشاريع الوظيفية الإقليمية حتى لو تطلب ذلك حربا تحريكية تساعد في ذلك كما حصل خلال الأيام الماضية.
وكانت نهاية الحرب التحريكية دراماتيكية أذهلت المراقبين لأنها لم تكن رائعة الإخراج بل أشبه بلعب الأطفال منها إلى حروب الكبار ولكنها فيما يبدو وصلت النهايات التي وافق عليها الجميع ليعود كل مشروع في حدود المساحات الممنوحة له وعودة التخادم من جديد.
وقد وضعت هذه الحرب الدول الخليجية في المحك الصعب لأنها يمكن بين عشية وضحاها أن تكون جغرافيتها هي ساحة المعارك بين المشاريع المتصارعة وأن القواعد العسكرية التي وضعت للحماية تكون من أكبر نقاط الضعف وعوامل التهديد مما يفتح الباب واسعا حول سؤال الأمن الخليجي والعربي ومستقبله.
كما أظهرت هذه الحرب ضرورة العمل لمشروع إسلامي يعبر عن الأمة المسلمة وتطلعاتها في التحرير والنهضة مسبوقا بالتجديد في الرؤى والمفاهيم والتصورات والأدوات بعيدا عن أوهام الاصطفافات نحو المشاريع الوظيفية هنا وهناك لأن الأمة لا يمكن الانسياق دون وعي نحو مشاريع معادية لها في الحقيقة ومصادمة لعقيدتها ومشروعها الحضاري.
تنبيهان لازمان:
_ التنبيه إلى أن إيران خاضت هذه الحرب لحساباتها الخاصة ولمصلحة أمنها القومي ولذا لم يتم الإشارة مطلقا للقضية الفلسطينية وقطاع غزة تحديدا كما هو الحال في كل تحركاتها منذ بداية الحرب فالملف الفلسطيني في المنظور الإيراني هو أحد روافع ومتكآت المشروع الإيراني من خارجه ويستثمر فيه بقدر ما يحقق المصالح وهذا خلافا لما يروج له البعض بأن إيران تدفع ثمن وقوفها مع فلسطين ولو قيل بأن غزة تدفع ثمن وقوفها مع إيران وتخلي إيران عنها مبكرا لكان أدق وأصوب.
_التنبيه بأن ترامب ونتنياهو قد مارسا نظرية الإلهاء في صرف الأنظار عن الجرائم والانتهاكات في قطاع غزة وخاصة في ظل تصاعد المطالبة بحل الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية وملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية الذي ظل يتنامى في الآونة الأخيرة ولكن من خلال الحرب الأخيرة تحولت الأنظار مؤقتا عن قطاع غزة كما سنرى محاولات الكيان الصهيوني الظهور بمظهر المستهدف والمظلومة من خلال آثار الحرب الأخيرة لتبقى السردية التاريخية القائمة على المظلومية حاضرة في الذاكرة لبعض الوقت.
وهذا يتطلب عملا جادا لاستثمار تداعيات الحرب الأخيرة في قطاع غزة وما حصل فيها من انتهاكات لمحاصرة الكيان وملاحقته قانونيا وتجريده من سرديته التاريخية التي بان عوارها كثيرا.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون