بحوث ودراسات

د. حسن سلمان يكتب: غايات قرآنية.. غاية التسليم (1-2)

مقدمة:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:

تحدثنا في الحلقات السابقة عن مداخل ومقدمات لما قصدنا الحديث عنه أصالة، وهو الحديث عن الغايات الكبرى التي تناولها القرآن الكريم باعتبارها كليات ومعالم ومنارات ينشدها الشارع، ويعمل المكلفون على تحقيقها وتحصيلها وغالبا ما تأتي بعد قوله (لعلكم) وستكون البداية في هذه الغايات بأعظم غاية يدور حولها التشريع والأحكام وهي مبتدأ ومنتهى الإرادات القلبية، وهي المقام الأسمى ومنها اشتق اسم الديانة والتدين الخالص لله رب العالمين وهي (غاية التسليم)، والتسليم لله جل جلاله من أعظم الغايات القرآنية المرادة من إنزال الكتب وإرسال الرسل وفرض شعيرة الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك من أجل تحقيق التسليم لله رب العالمين، وهو مقام عظيم يبدأ به العبد المكلف، ويتدرج في كمالاته إلى المقامات العليا والنهايات المحمودة، ضمن مدارج العبودية لله تعالى، والغايات رغم تعددها وتنوعها إلا أنها تشكل بنيانا مترابطا ومتناسقا، وهذه الحلقات كالعقد الفريد تبدو أكثر جمالا كلما تكاملت في سلسلة متصلة في سياق واحد يشد بعضها بعضا، ليكتمل البنيان الإيماني والعملي بمفردات هذه الغايات القرآنية، وقد وجدنا كثيرا من الغايات متصلة ببعضها فمثلا غاية العبادة تؤدي لغاية التقوى ومرتبطة بها والأخيرة -التقوى – مرتبطة بغاية الشكر في تلازم فريد، وهي كليات وأمهات في الغايات المنشودة للشارع الحكيم، فيها البدايات والأواسط والنهايات.

وقد وردت غاية التسليم في العديد من الآيات أمرا بها ونهيا عن ضدها وجعلها غاية يتم السعي لها والعمل على تحقيقها ونكتفي بقوله تعالى: (وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَـٰنࣰا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَ ٰ⁠بِیلَ تَقِیكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَ ٰ⁠بِیلَ تَقِیكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ یُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ) النحل/٨١، وفي الآية دليل واضح بأن النعم التي أنعم الله بها على عباده غايتها التسليم لله تعالى.

كما وردت مفردة التسليم في قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجࣰا مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمࣰا) النساء/٦٥

أولا: التسليم لغة واصطلاحا:

التسليم في اللغة:

من مادة :(سلم -والسين واللام والميم – معظم بابه في الصحة والعافية) مقاييس اللغة/ 412

التسليم في الاصطلاح:

 هو الانقياد لأمر الله تعالى، وترك الاعتراض فيما لا يلائم، واستقبال القضاء بالرضا، وقيل: التسليم هو الثبوت عند نزول البلاء من تغير في الظاهر والباطن) التعريفات للجرجاني، م، س، -ص/100

والتسليم عند علماء السلوك والتزكية مقام من المقامات ومنزلة من المنازل يقول عنها صاحب “مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين” العلامة ابن قيم الجوزية: «وهي نوعان: تسليم لحكمه الديني الأمري، وتسليم لحكمه الكوني القدري.

فأما الأول: فهو تسليم المؤمنين العارفين. قال تعالى: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾.

أما مراتبه وأنواعه: ثلاث مراتب: التحكيم، وسعة الصدر بانتفاء الحرج والتسليم.

وأما التسليم للحكم الكوني: فمزلة أقدام ومَضَلّة أفهام. حيّر الأنام، وأوقع الخصام. وهي مسألة الرضى بالقضاء) ج/1/ص547

ولسائل أن يسأل لماذا كانت البداية بغاية التسليم دون سواها من الغايات؟

ونقول جوابا عن هذا السؤال بأن غاية التسليم هي الغاية التي جعلها الله تعالى نقطة بداية التكليف، وذلك بإعلان الشهادة (لا إله إلا الله) ومقتضاها التسليم المطلق لله تعالى بدخول المكلف عتبة الإسلام الأولى إلى نقطة النهاية، بأنه سيمضي وفق مراد الله تعالى دون تكذيب أو تكبر أو عناد، بل بانقياد تام وتسليم كامل، فالحياة كلها تسليم وانقياد لله تعالى في التصور الإسلامي، والمسلم وهو يرتحل من هذه الحياة ذات التسليم والإسلام والتكاليف المختلفة، ليبدأ حياة أخرى ويعيش في دار السلام وهي الجنة التي أعدها الله تعالى لأهل الإسلام والطاعة والانقياد، وشهادة (لا إله إلا الله) التي بدأنا بها مسيرة التكليف وبدايات الطريق هي ذاتها التي نختتم بها حياتنا ومسيرتنا القاصدة إلى الله تعالى، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ” رواه أبوداود وصححه الألباني، إذن فالشهادة هي أيضا كرت العبور إلى الآخرة، ومن ذلك قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} آل عمران /102، فنحن نبدأ بالإسلام معلنين شهادة (لا إله إلا الله) والتي حقيقتها التسليم المطلق لله تعالى قدرا وشرعا، و من التسليم كان تسمية أتباع الدين الرباني المقبول بالمسلمين كما في قوله تعالى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ) الحج /78، ولهذا كل الرسل والأنبياء جميعا دعوا أقوامهم للإسلام وأمرنا الله بالإيمان بهم جميعا لأنهم مسلمون لا نفرق بينهم قال تعالى :

(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة /136، فغاية التسليم تتقدم سائر الغايات، فالذي يسلم لله تعالى هو الذي يعبده ويتقيه ويخشاه ويتوكل عليه ويتضرع إليه ويشكره، ولذا فغاية التسليم هي الأساس الذي ترتكز عليه بقية الغايات.

ثانيا: ركائز التسليم:

وغاية التسليم تقوم على ركيزتين أساسيتين هما:

1/ الإسلام 2/ الإيمان

ونحاول البيان والتفصيل في هاتين الركيزتين لأنهما الأساس في بلورة غاية التسليم وذلك من خلال ما يلي:

1/ الإسلام:

إن معاني ودلالات مفردة الإسلام في القرآن الكريم تدور حول الاستسلام والانقياد والخضوع والتفويض والإقرار والإذعان، و ذلك من خلال النطق بالشهادة والإقرار بالتوحيد مع الانقياد والطاعة والعمل بالأركان والشعائر المعلومة، من صلاة وصيام وزكاة وحج، كما في قوله تعالى: (فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) الحج /34، يقول إلهكم إله واحد وليست هنالك آلهة عديدة، وليس هناك أرباب متعددون ولكنه رب واحد، ليس هناك ملوك على الحقيقة يملكون من أمر الكون في التدبير والإحسان للخلق إلا ملك واحد هو الله جل جلاله، ومعالم الانقياد تظهر في الإسلام من خلال أركان الإسلام المعلومة كما نصت عليها الأحاديث الصحيحة وهي تعبر عن الشعائر الظاهرة، فالتسليم القلبي يتجلى في أعمال الجوارح، ونتناول مظاهر التسليم بأركان الإسلام الخمس وهي التي وردت في حديث جبريل عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قائلا له: أخبرني عن الإسلام قال : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان و تحج البيت) وهذه الأركان الخمسة هي الركائز العملية المعبرة عن الإسلام، فشهادة ألّا إله إلا الله إقرار بالعبودية لله تعالى وأنه المعبود بحق ولا معبود بحق إلا هو، وينبني على هذا الإقرار سائر الأركان العملية في الإسلام، وطلبا للاختصار نتناول ركنين أساسين فقط من الأركان العملية وهما الصلاة والزكاة وكيف يتجلى فيهما أمر التسليم لله تعالى ظاهرا وباطنا، فالصلاة هي حق الله تعالى و هي طهارة روحية وبدنية، وهي اتصال قلبي وأعمال ظاهرة، فحقيقتها تبدأ من القلب و تنتهي بالجوارح يعني من لم يكن متصلا بالله بقلبه لن يكون مصليا لله تعالى بجوارحه، و لذلك كانت الصلاة في بداية الأمر صلاة قلبية يعني إقامة صلة مع الله بالتوحيد والخشية والمحبة والتوكل والرهبة والرغبة فيما عند الله تعالى، فهذه كلها صلة مع الله تعالى، وهذه الصلة تنعكس في الصلاة ذات الحركات الظاهرة بقيامها وركوعها وسجودها وتلاوتها، ونجد التفريق بين الصلاة القلبية والظاهرة جليا في الرسم والسياق القرآني فالصلاة التي نؤديها خمس مرات في اليوم والليلة مسبوقة بقوله تعالى(وأقيموا الصلاة) وأما الصلاة القلبية وهي الصلة مع الله تعالى فهي ترد مجردة عن ذلك، وتعبر عن التوحيد والعلم والمعرفة والرغبة والخشية، وبالتالي فالصلاة اتصال قلبي وأعمال ظاهرة، يقول عنها المجاهد/علي عزت بيجوفيتش في كتابه -الإسلام بين الشرق والغرب-: ليست الصلاة مجرد تعبير عن موقف الإسلام من العالم، وإنما هي أيضاً انعكاس للطريقة التي يريد بها الإسلام تنظيم العالم، فالصلاة تعلن أمرين: (إنه لا صلاة بدون طهارة ولا جهود روحية بدون جهود مادية واجتماعية تصاحبها .. فالصلاة في الإسلام باطلة بدون وضوء، بينما في الدين المجرد يمكن أداء الصلاة مع وجود -القذارة المقدسة -التي عرفتها بعض نظم الرهبنة في كلّ من المسيحية والهندوسية) انظره بتصرف / 278، وعليه فالصلاة هي حالة تسليم لله تعالى ومفارقة لكل مارق عن نظام الله تعالى في تنظيم الحياة بين عوالم الإنسان والحيوان والطبيعة، ومن خلال النظر في شروط الصلاة وهي: دخول الوقت والطهارة وستر العورة واستقبال القبلة، نلاحظ التسليم المطلق وتحديد الوجهة وضبط البوصلة والطهورية ظاهرا وباطنا، والانتقال من عوالم الحيوان العاري والخالي من الستر والزينة إلى آفاق الإنسانية الحضارية فالستر ومفارقة العري له دلالاتها الكبرى في التصور الإسلامي، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) الأعراف /31 .

وذات المنطق الذي وقفنا عليه في شروط الصلاة -وهي التزامات قبلية خارج الصلاة- نجده في أركان الصلاة وهي التزامات جوهرية داخل الصلاة تحدد ماهية الصلاة، من قيام وتكبير وقراءة وطمأنينة وخشوع وركوع وسجود وجلوس وتشهد وتسليم، هذه الالتزامات كلها تدور حول تعميق الصلة بالله تعالى وتعظيمه وأنه الأكبر في ذات العبد ونفسه من كل كبير سواه، وأن العبد يعلن خضوعه وفقره وحاجته للكبير المتعال، ويعلن ولاءه وتسليمه لله تعالى في كل صلاة تعبيرا عن ذكر الله وعدم الغفلة عنه ونسيانه في متاهات الحياة وشواغلها، فالصلاة في عمق الذكر الذي هو أعظم مقصود ومطلوب قال تعالى: (إِنَّنِیۤ أَنَا ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِی وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِیۤ) طه /14، و الصلاة تعمق الجماعية من خلال هيئة الصلاة التي تؤدى جماعة في المساجد فيعلن المسلم انتماءه وولاءه للذين هم لربهم يسلمون، وهي الحالة التي تخرجه من الذاتية و الأنا والفردانية، ومن الصلاة يتعلم المسلم الانضباط والتنظيم والمسؤولية والوحدة والمتابعة الراشدة وفق منظومة متفق عليها بأحكام واضحة للجميع، يتقدمهم أمام أعلمهم بالقراءة والأحكام، ويتقدمهم برضاهم دون إكراه فلا مجال ليؤمّهم وهم له كارهون، وهكذا تكون الصلاة ضابطة لبوصلة المكلف في علاقته مع الله تعالى روحيا كما أنها موجهة له حياتيا في مسيرته كلها، فالتذكير بالله في الصلاة يكون حاضرا في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمعرفية وكافة ساحات التعبد المعاشي شكرا لله تعالى على آلائه ونعمه وتركا لكل صنوف المنكرات التي تخالط الناس في معاملاتهم البينية، وهكذا تكون الصلاة مؤدية لوظيفتين هما : الوظيفة الروحية بتعميق الصلة مع الله وهي الذكر والوظيفة الاجتماعية وهي التأثير في الحياة إيجابا بما يحقق الاستخلاف والعمران بترك المنكرات المدمرة للعمران وهذان الأمران قد دلت عليهما الآية في قوله تعالى :

(إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) العنكبوت /45، وهكذا تظهر أهمية الطهارة والتزكية الظاهرة والباطنة في الصلاة وتأثيرها في كافة ميادين الحياة، وبذلك تتكامل الشعائر التعبدية مع الأحكام والتشريعات المعاشية لصلاح الإنسان وصلاح العمران، وتحقيق الغاية التي نتحدث عنها وهي التسليم لله تعالى الذي هو محض التعبد الذي خلقنا لأجله ونصل بذلك إلى مقام المحبة لله تعالى الذي دلت النصوص على أنه تعالى (يحب التوابين ويحب المتطهرين) وهذا المعنى كان جليا منذ اللحظة الأولى لنزول الرسالة والقيام بواجب حملها كما في قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّر* قُمۡ فَأَنذِرۡ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ * وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ) المدثر/1-5.

والركيزة الثانية من أركان الإسلام هي الزكاة : فالصلاة والزكاة تمثلان في الإسلام أصولا عظيمة في حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فالصلاة تعبير عن حق الله تعالى وإقامة الصلة معه وترك القطيعة مع الله تعالى النابعة عن التكذيب والإباء أو الجحود والإعراض، كما أن الزكاة تعبير عن حق العباد من خلال العطاء وإقامة الصلة الإنسانية التزاما بما أمر الله به أن يوصل من حبال المودة الرحمية، ومن خلال الصلاة والزكاة تتحقق التقوى لله تعالى والإحسان للخلق وقد سبق الحديث عن الصلاة ونتحدث عن الزكاة بذات الثنائية التي ذكرناها في الصلاة وهي (الروحي والمادي/ الظاهر والباطن) فالزكاة من النماء وكلما كان النماء الروحي حاضرا وقويا أثمر ذلك نماءً ظاهريا من خلال الإنفاق وعاد ذلك بنماء للمال بركة وزيادة (ما نقصت صدقة من مال) (أنفق ينفق عليك) (اللهم آتي كل منفق خلفا …) وقد كانت الزكاة في بداية الأمر إنفاقا دون تقدير وهو(العفو) وهي حالة ارتقاء روحي وإنفاق بلا حد أو تقدير، ولم تظهر الدولة ومنطقها القائم على التقنين و التدقيق و ممارسة السلطة ورقابتها قال تعالى:(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) البقرة/ 219، وتعددت الأقوال في معنى العفو الوارد في الآية فقيل : بأنه الفضل وهو ما زاد عن الحاجة، أو الوسط بين الإسراف والاقتار، أو ما تجود به النفس دون تحديد، وقال الإمام الطبري بعد سرده لتلك الأقوال في تفسيره:(والأصوب من الأقوال أن العفو هو:(الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله في مؤنتهم وما لابد منه) وكان ذلك هو المشروع في مكة، وقبل قيام الدولة والولاية العامة في المدينة والتي مع قيامها تم التحديد والتقدير وفق منطق التقنين المناسب للدولة، وهو أن المال يؤخذ منه (2.5%) إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول، ويمكن القول بأنه مع التقنين والتحديد والتقدير تم تغليب المنطق الظاهري المادي على المنطق الباطني الروحي الذي يسعى فيه المكلف إلى طلب الرضوان الرباني والسعي لمحبة الله تعالى ومعيته الناجمة عن التقوى والإحسان والزهد في الدنيا والركون إلى الآخرة بعيدا عن شكليات التقدير والتحديد.

والزكاة في شكلها الظاهري هي محاربة للفقر و تحقيق للتكافل والتضامن المجتمعي، ولكن في بعدها الروحي هي تطهر وتزكية كما هو الحال في الصلاة، فالطهورية الجوانية الباطنية لا يطلبها العبد في الصلاة ومواطنها (المساجد) والعلاقة مع الحق جل جلاله فقط، بل كذلك يطلبها في العلاقة مع الخلق من خلال الإنفاق المالي والعطاءات البدنية المختلفة ومن خلال السعي والضرب في الأسواق رعاية للحقوق والتزاما بالحدود قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) التوبة /103، وفي ذلك دلالة عميقة من حيث التأمل والتدبر، وهو أن أسباب الفقر ليست مادية بحتة كما يذهب إليه كثير من دارسي الاقتصاد من اشتراكيين وليبراليين، حيث ينظرون إلى أن مشكلة الفقر هي مشكلة مادية، ولكن القرآن الكريم يذهب إلى أعماق النفس البشرية تشخيصا لمشكلة الفقر ليخلص بأن المشكلة في الأعماق والجذور النفسية، وليست في الإجراءات والأدوات، هي مشكلة في التصورات والرؤى والعقائد أي هي مشكلة في الإنسان وليست في الأدوات، فمشكلة الناس ليست في سوء التوزيع للثروات، واختلال ميزان العدالة من خلال الإجراءات، ولكن المشكلة في النفوس (قل هو من عند أنفسكم) هذه النفوس التي امتلكت أموالا ولكن مع الأموال والغنى أصابها الطغيان والشُّح والجشع والاحتكار والاستعلاء والتكبر والفساد، وفي الجانب الآخر -أي الفقراء -غياب الفاعلية والجدية والسعي الدؤوب في العمل والكسب والتصورات الخاطئة لمفاهيم شرعية كالتوكل والزهد وحقيقة الدنيا وموقف المسلم منها، هكذا هو التشخيص القرآني لمشكلة الفقر، دون التقليل بطبيعة الحال من الجوانب الإجرائية، ولكن الزكاة في التصور القرآني تعالج كافة العلل الباطنية والأمراض التي تصيب أصحاب الأموال في بعدها الروحي وتعالج مشكلات الفقراء في بعدها الظاهري الإجرائي .

وخلاصة القول فالصلاة والزكاة وجهان لعملة واحدة، وهما ركنا التسليم لله تعالى، وبهما ينال الإنسان معيّة الله تعالى، من خلال التقوى والإحسان الوارد في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) النحل/ 128، وما قلناه في الصلاة والزكاة ينطبق على الصوم والحج بأبعادهما الروحية والاجتماعية ولكن نكتفي بذلك ففيه الغنية والكفاية.

لمزيد من التفصيل /انظر الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت، ص/ 279-288

2/ الإيمان:

تدور معاني ودلالات مفردة الإيمان على الاعتقاد والتصديق والعمل، ولهذا فإن الإيمان لخصه السلف في أنه (قول وعمل) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (أجمع السلف: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ومعنى ذلك: أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح…..) ابن تيمية مجموع الفتاوى،7/672، وعليه فإن مفهوم الإيمان يقوم على التصديق بالغيب، وكل ما لا يمكن إدراكه بالحواس، بل يكون التصديق به مبناه على الوحي المنزل حتى ولو كان مدركا بالفطرة والعقل إجمالا وأصول ذلك أركان الإيمان المعلومة كما في قوله تعالى:

(ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ) البقرة/٢٨٥، وهي ذاتها التي وردت في حديث جبريل ولكن يشتمل الإيمان في الدلالات والمفردات القرآنية على الأعمال والتكاليف كلها سواء كانت أعمال القلوب أو الجوارح.

والتسليم لله عز وجل يتجلى في التصديق بكل ما أخبر به الله تعالى عن عالم الغيب والشهادة، وأنه الحق والصدق كما يتجلى في الطاعة والانقياد لكل ما أمر به واجتناب كل ما نهى عنه، وهذا التسليم المطلق يتأسس على مقدمات الإعجاز والبينات والبراهين المصدقة لما جاء به الرسل ووثق بها العقل وسلم، والتي بها نفرق بين الأدعياء والأنبياء كما تقدم في الحديث عن البينات، ويترتب على التصديق والتسليم القلبي الطاعة والانقياد العملي، دون شك وريب وتردد أو حرج قلبي يعطل تنفيذ الأمر الرباني، أيًا كان ذلك الحكم والأمر مخالفا للعادات والتقاليد والأعراف والأهواء والنظام السياسي و التشريعي السائد قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء/ 65.

والتسليم لله تعالى يكون في التصورات والعقائد والأفكار والنظريات والمعارف، ويكون في العمل الصالح من خلال السلوك الإنساني في كافة مجالات الحياة بحيث يترجم هذا الإيمان إلى واقع عملي وفاعلية إنسانية تحقق العبادة والعمران معا، وتصبغ الحياة كلها بصبغة الإسلام الذي هو دين الله المرتضى والمقبول قال تعالى:(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ) آل عمران /19 وقال تعالى: (صِبۡغَةَ ٱللَّهِ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبۡغَةࣰۖ وَنَحۡنُ لَهُۥ عَـٰبِدُونَ) البقرة/١٣٨، وقوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آل عمرن /85 .

وبهذا التسليم والإيمان يبلغ الإنسان مرتبة الصديقية من خلال التدرج في التصديق، فأبو بكر الصديق كان صديقا لأنه كان يسلم تسليما كاملا بكل ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه مرتبة عظيمة وصف الله بها رسوله إبراهيم عليه السلام (صديقا نبيا) كما وصف بها مريم عليها السلام (وأمه صديقة) ومقام الصديقية يوصف به الرسل والأنبياء كما يوصف به غيرهم مع تفاوت الأمر بطبيعة الحال وعندما تأتي الصديقية مع النبوة في سياق واحد فهي دونها كما في قوله تعالى: (وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَعَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلصِّدِّیقِینَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَٱلصَّـٰلِحِینَۚ وَحَسُنَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ رَفِیقࣰا) النساء/٦٩ فجعلت الآية المنعم عليهم أربع مقامات وهم :الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.

وغاية التسليم تتصدر الغايات القرآنية لأن هذه الغايات بشكل عام لها نقطة بداية وتوسط ونهاية وبعضها يمسك ببعض في سياق بناء عظيم متشابك في وحداته ومتداخل في مفرداته وعناصره وغاية التسليم تتخلل جزيئات البنيان في سيرورته وصيرورته ومنتهاه قال تعالى: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) آل عمران/102.

ويتجسد الإيمان في الأركان الستة التي وردت في العديد من آيات الكتاب العزيز ومنها قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه) البقرة /285، وقوله تعالى:(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر /49، و هي الإيمان بالله تعالى ووجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته كما وردت عن الله تعالى دون تحريف أو تبديل أو تعطيل أو تأويل تأباه لغة العرب وقطعيات الشرع، والإيمان بالآخرة والمصير وما فيها من محشر وبعث وموازين وحساب وجزاء وجنة ونار، والإيمان بالملائكة الذي هم خلق من خلق الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره في أنفسهم وفي غيرهم، والإيمان بالرسل والكتب المنزلة والتصديق بما ورد فيها من عقائد وتشريعات وهدايات وقيم ومعارف، والإيمان بالقدر خيره وشره وأن الله تعالى قدر المقادير بعلمه وهو خالق للأفعال والأعمال وأنه لا يقع في كونه ما لا يريد كونا وقدرا، وأن العباد يتقلبون بين أقدار الله تخييرا وتسييرا وكل ذلك تحت قاعدة قوله تعالى:(وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ) التكوير /29، والقدر سر الوجود وفيه تتجلى أسمى معاني التسليم لله تعالى في قضائه وقدره وأمره وشرعه يقول المجاهد الراحل / علي عزت في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب :

(للطبيعة حتمية تحكمها وللإنسان قدره، والتسليم بهذا القدر هو الفكرة النهائية العليا للإسلام … ثم يقول: والتسليم لله أو التمرد – إجابتان مختلفتان للسؤال نفسه … ويقول: الاعتراف بالقدر استجابة مثيرة للقضية الإنسانية الكبيرة التي تنطوي في جوهرها على المعاناة التي لا مرد لها.. إنه اعتراف بالحياة على ما هي عليه، وقرار واع بالتحمل والصمود والتجمل بالصبر …. ثم يختم قوله قائلا: إن الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها، وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه: من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني.. من قوة النفس في مواجهة محن الزمان.. من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود.. من حقيقة التسليم لله.. إنه استسلام لله.. والاسم إسلام!) ص/ 371-374 بتصرف، وهي ذات الأركان التي وردت في حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان.

والتسليم لله تعالى تتجاوز التكليف الرباني لعوالم الأحياء لتكون السمة اللازمة لأهل السماوات والأرض طوعا أو كرها يقول الله عز وجل: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} آل عمران /83

 ومن خلال تحقيق الإسلام والإيمان يخرج الإنسان من أمرين خطيرين نهى الله تعالى عنهما: أولهما: الكفر الذي يعني التكذيب والجحود والإلحاد وثانيهما: التكبر الذي يحمل صاحبه على الإباء والإعراض وعدم التسليم والانقياد لله تعالى، فالإسلام يقابل الانقياد والإيمان يقابل التصديق ولذلك كانت مشكلة فرعون لعنه الله تعالى التكذيب والعصيان والإباء:(كذب وعصى وكذب وأبى) وهو رفض التسليم لله تعالى والانقياد لأمره ونهيه والتكذيب به وبآياته ورسله، والإسلام والإيمان وإن كان لكل منهما معناه الخاص، إلا أنهما يتداخلان أحيانا فيطلق الإيمان ويراد به الإسلام، أو يطلق الإسلام ويراد به الإيمان، وذلك بحسب الاجتماع والافتراق في السياق، جريا على قواعد أهل السنة والجماعة، كما في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} الحجرات 14 وكذلك في قوله تعالى: ” {فَأَخۡرَجۡنَا مَن كَانَ فِیهَا مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ * فَمَا وَجَدۡنَا فِیهَا غَیۡرَ بَیۡت مِّنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ} الذاريات/ 35-36 .

وللمقال تتمة.

د. حسن سلمان

باحث في الدراسات الشرعية والسياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى