مقدمة:
الحمد لله حمدا كثيرا والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
يُعدّ الذِّكر من أعظم العبادات القلبية واللسانية في الإسلام، لما له من أثر عميق في تزكية النفس، وطمأنينة القلب، وتقوية الصلة بالله تعالى. وقد اعتنى به القرآن الكريم عناية بالغة، فتكرر ذكره في مواضع كثيرة، مقرونًا بأحوال الإنسان في السراء والضراء، وجعل الله له منزلة رفيعة بين سائر العبادات، قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ البقرة: 152.
الذِّكر من المقاصد القرآنية الكبرى:
يُعدّ الذِّكر من الغايات الكبرى في كتاب الله تعالى، ومن المقاصد العظيمة التي دعت إليها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة. فقد نصّت كثير من آيات الذكر الحكيم على معاني التذكّر والذِّكر والتذكير، كما حذّرت من الغفلة والنسيان، لما لهما من آثار تؤدي إلى الخسران والضلال.
ومن الآيات التي تُبرز هذا المقصد قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ الأنعام: 152.وقد وردت هذه الآية ضمن سلسلة من الوصايا التي تضمنتها سورة الأنعام، تناولت جملة من الأحكام الشرعية مثل: برّ الوالدين، النهي عن قتل النفس، تحريم أكل أموال اليتامى ظلمًا، وترك الفواحش. وفي ختامها، يختم الله بالحث على التذكّر، تأكيدًا على أن مقصد هذه الأحكام هو اليقظة القلبية والاتصال الواعي بالهداية الإلهية، كذلك يقول تعالى بعد ذكر آياته في الثمرات والأرض وإنزال المطر:﴿كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ الأعراف: 57،
مشيرًا إلى أن التأمل في مظاهر الإحياء في الطبيعة يؤدي إلى استحضار قدرة الله ويوقظ في النفس الإيمان والمعرفة.
ويقول تعالى في ختام آية جامعة للأحكام والمقاصد:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ النحل: 90.
وفي مطلع سورة النور، يقول الله جل جلاله:﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ النور: 1.
ويقول في موضع آخر: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ الذاريات: 49. وفي سياق القصص والعبر ورد قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ الأعراف: 130.وفي التحريض على ذكر الله:
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الأنفال: 45. ويقول في بيان فضل الذكر وأهله: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ الأحزاب: 35.
إن هذه الآيات المتواترة والمتضافرة تدل دلالة واضحة على أن الذكر والتذكّر، وترك الغفلة والنسيان، من أعظم مقاصد وغايات القرآن الكريم، التي ينبغي للمؤمن أن يستحضرها في تلقيه للكتاب وتدبره له.
فالإنسان إذا قرأ كتاب الله تعالى وتعمق في معانيه أورثه ذلك ذِكراً دائماً، ويقظة قلبية متجددة، وتحرّر من الغفلة التي تفضي إلى البعد عن الله وخسارة الدنيا والآخرة ولئن كان الذكر كذلك، فما تعريفه وما هي معانيه لغة وشرعاً؟
الذِّكر في اللغة:
الذِّكر في اللغة يدور حول معنى الحفظ، وعدم النسيان، والحديث عن الشيء، ومنه قولهم: “ذَكَر فلانًا” إذا تحدث عنه أو استحضره في ذهنه. ويُطلق كذلك على التلاوة، والتسبيح، والدعاء، وعلى كل ما يُستحضر به الشيء بعد غفلته.
قال ابن فارس: “الذال والكاف والراء أصل يدل على الحفظ للشيء، والعلم به… ومن الباب الذِّكر خلاف النسيان” (مقاييس اللغة).
فالذكر إذن له معنيان أساسيان:
- استحضار الشيء في الذهن بعد نسيانه أو غفلته.
- التلفظ بالشيء على اللسان.
الذِّكر في الاصطلاح الشرعي:
أما في الاصطلاح الشرعي، فالذِّكر هو: كل ما يُتقرّب به إلى الله من الأقوال المشروعة، كالتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والاستغفار، وقراءة القرآن، والدعاء، والصلاة على النبي ﷺ، وغيرها من الأذكار الواردة في الكتاب والسنة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه مجموع الفتاوى :
(كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب، مما يقرب إلى الله تعالى، من تعلم علم، أو تعليمه، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، فهو من ذكر الله سبحانه وتعالى)
ولهذا، فإن من اشتغل بالعلم بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلسًا يتفقه فيه، أو يُفقّه غيره – مما سُمي في كتاب الله وعلى لسان رسوله ﷺ فقهًا – فإنه يعد من أفضل أنواع الذكر.
وابن تيمية رحمه الله وسّع مفهوم الذكر، كما وسّع سابقًا مفهوم العبادة، فجعلها لا تقتصر على الشعائر التعبدية، بل تشمل حياة الإنسان كلها ما دامت متوجهة إلى الله، ومبنية على طاعته وهذا التوسيع في المفهوم والمعنى من شأنه أن يجعل المسلم مستجمعاً قلبه على الله تعالى في كل لحظات حياته ذاكراً بلسانه مستحضراً بجوارحه.
معاني الذكر في القرآن الكريم:
لفظ (الذكر) من الألفاظ المتواترة الحضور في القرآن، فقد ورد هذا اللفظ في اثنين وأربعين ومئتي (242) موضع بتصريفاته المتنوعة. (راجع موسوعة التفسير الموضوعي)
ويُطلق الذِّكر في القرآن الكريم بإطلاقين:
1/ الذِّكر العام: ويشمل كل ما يُقرب إلى الله من قول أو عمل، مثل الصلاة وتلاوة القرآن وتعليم العلم وفي هذا السياق العام نجد الوحي المنزل من الله تعالى هو أساس في معنى الذكر.
2/ الذِّكر الخاص: ويُراد به الأذكار المحددة بالألفاظ الشرعية، كقول: “سبحان الله”، “الحمد لله”، “لا إله إلا الله”، “الله أكبر.
وهذا الإطلاق في السياق العام والتقسيم الكلي ولكن من خلال تتبع العلماء لمفردة الذكر فقد وجدوها متعددة المعاني من خلال السياق الخاص الذي ترد فيه مفردة الذكر في كل آية من آيات الكتاب العزيز ومن هؤلاء الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه (معترك الأقران في إعجاز القرآن) ج/2/182-183، حيث تتبع مفردة الذكر بحسب السياقات الواردة في آيات الكتاب العزيز على النحو التالي:
1/ ذكر اللسان بالثناء والحمد والتمجيد كما في قوله تعالى: ” فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ” البقرة/200، أي كما كنتم تذكرون آباءكم وتثنون عليهم شعرا ونثرا في مقامات الشعائر في عرفات ومزدلفة ومنى اذكروا الله أي باللسان.
2/ ذكر القلب بحضوره وخشيته كما في قوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ” آل عمران/135، هنا ذكر الله لا يعني باللسان ولكن استحضروا المعاني العظيمة واستحضروا رقابة الله سبحانه وتعالى والخوف من الله فاستغفروا لذنوبهم.
3/ الذكر بمعنى الحفظ كما في قوله تعالى:” خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ” البقرة/63، أي احفظوا ما فيه.
4/ الذكر بمعنى الطاعة والجزاء قال تعالى:” فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ” البقرة/152، أي أطيعوني فإن أطعتموني فإني أذكركم في مقامات هي خير من مقاماتكم.
5/ الذكر بمعنى الصلوات الخمس قال تعالى: “فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ” البقرة/239، أي إذا أمنتم من حالة الحرب والخوف فاذكروا الله أي بصلواتكم العادية.
6/ الذكر بمعنى العظمة قال تعالى:” وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ” المائدة/14، نسوا ما ذكروا به أي ما عظموا به وما رفعناهم به فلما نسوا ذلك أغرينا بينهم العداوة والبغضاء.
7/ الذكر بمعنى البيان في قوله تعالى:” أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ” الأعراف/63، أي جاءكم بيان من ربكم.
8/ الذكر بمعنى الحديث والإخبار عن الواقع والحال كما في قوله تعالى: ” وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ” يوسف/42. أي يحدث ويخبر عن قضيته ومظلمته وحاله عند سيده.
9/ الذكر بمعنى القرآن والكتاب قال تعالى: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ” طه/124. ” وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍۢ مِّنَ ٱلرَّحْمَٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ” الشعراء/5، وهو القرآن والوحي المنزل.
10/ الذكر بمعنى التوراة قال تعالى:” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ” النحل/ 43، وأهل الذكر هنا تحديدا كانت تعني التوراة باعتبار أنهم كانوا أهل الذكر قبل المسلمين.
11/ الذكر بمعنى الخبر والنبأ قال تعالى:” قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ” الكهف/83، أي خبرًا، وقد تناول القرآن قصص الأنبياء وأحوالهم وهي من أنباء الغيب ثم يطلق عليه الذكر قال تعالى:( ذَ ٰلِكَ نَتۡلُوهُ عَلَیۡكَ مِنَ ٱلۡـَٔایَـٰتِ وَٱلذِّكۡرِ ٱلۡحَكِیمِ) آل عمران/٥٨، أي هذه أخبار وأنباء يذكر فيها أحوال الماضيين.
12/ الذكر بمعنى الشرف قال تعالى:” وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ” الزخرف/44، أي بمعنى هو رفعة وشرف ومقام عظيم وثناء جميل لك ولقومك.
وكما أن الذكر قد يكون محمودا كذلك قد يكون معيباً قال الله: ” أَهَٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ هُمْ كَافِرُونَ ” الأنبياء/36، فهنا الذكر بمعنى العيب والسوء.
13/ الذكر بمعنى اللوح المحفوظ أو أم الكتاب قال تعالى: ” وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ” الأنبياء /105.في أصح الأقوال وأصوبها فيما ورد عند أهل التفسير.
14/الذكر بمعنى الثناء على الله تعالى ” إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ” الشعراء/227.
15/ الذكر بمعنى الوحي منها قول الله تعالى: ” فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ” الصافات/3.
16/ الذكر بمعنى الرسول صلى الله عليه وسلم كما قوله تعالى:” قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ” الصافات/10-11.
17/ الذكر بمعنى الصلاة قال تعالى:” إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ” العنكبوت /45. أي ما في الصلاة من الذكر أكبر.
18/ الذكر بمعنى صلاة الجمعة قال تعالى” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ” الجمعة/9.
19/ الذكر بمعنى صلاة العصر وذلك لما نسي نبي الله سليمان صلاة العصر قال:
” فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ” ص /32.
أنواع الذكر في الكتاب العزيز:
يتنوع الذكر في القرآن الكريم باعتبارات عديدة فمنها ما يتعلق بالله تعالى ومنها ما يتعلق بأمره ومنها ما يتعلق بنعمه ونتناول هذه الأنواع الثلاثة:
النوع الأول: ذكر الله تعالى من حيث التعلق به:
وهذا من أعظم أنواع الذكر، ويتمثل في استحضار الإنسان لأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وإدراكه أن الله خالق، رازق، محيي، مميت، وأنه وحده من أوجد هذا الوجود، ويستلزم ذلك ذكر وحدانيته وكمالاته، وتدبّر معاني أسمائه وصفاته وآثارها في الكون.
وقد ورد في الحديث الشريف: “إن لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة”. والإحصاء هنا لا يعني مجرد الحفظ، وإنما الوقوف عند كل اسم: دلالته، تجلياته، آثاره في النفس والحياة، وتمظهره في الوجود. فالكون كله تجليات لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا: اسم الله الخالق يتجلى في الخلق، والبارئ في البرية، والمحيي في الحياة، والمميت في حقيقة الموت، والرزاق في رزق الخلق جميعًا، بشرًا وشجرًا وحجرًا وملائكة.
وهذا النوع من الذكر يمكن تسميته بـ”الذكر المعرفي” أو “الذكر العلمي”، إذ يقوم على تعلُّم أسماء الله، وفهمها، والتفاعل معها. وكل أسماء الله فاعلة وعاملة، ولا يوجد منها اسم معطّل، فمثلًا: اسم الله التواب لا يتجلى إلا بوجود من يذنب ويتوب. وكذلك الجبار: يتجلى في قصم الطغاة المستكبرين، كما يتجلى في جبر المنكسرين والمظلومين.
فإذا وقف الإنسان مع معاني الأسماء، وتدبرها، وفهم براهينها وتطبيقاتها، فهذا من أعظم أنواع الذكر.
النوع الثاني: ذكر أوامر الله ونواهيه:
وهو أن يذكر العبد ما أمر الله به، وما نهى عنه، فيمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي، ويستحضر أحكام الله في الحلال والحرام، والمباح والمكروه والمندوب. ومن ثَمّ، لا يُقدِم العبد على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. وهذا أيضًا من الذكر، لأنه استحضار لشريعة الله سبحانه وتعالى وسلوكه على هديها والسير على منهاجها.
النوع الثالث: ذكر النعم والآلاء:
قال الله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ النحل: 18، وقال سبحانه:
﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ الذاريات: 21.
فالتأمل في نعم الله الظاهرة والباطنة، في النفس، وفي النبات، وفي الحيوان، وفي السماوات والأرض، وفي البحار والجبال، كل ذلك ذكر. فالله تعالى يُنبّهنا إلى أن الزرع، مثلًا، ليس بفعل الإنسان، وإنما هو من خلقه سبحانه، كما في قوله:
﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ الواقعة: 63– 64. ففرقت الآية بين الحرث الذي هو فعل الإنسان وبين الزرع الذي هو فعل الله وخلقه.
كما يُذكّرنا الله بنعمة الخلق والتكوين، من النطفة إلى الجنين إلى الإنسان الكامل. وهذه الآلاء والنعم تزرع في قلب المؤمن عمق التذكر والخضوع لله تعالى وكلما ازداد العبد تذكُّرًا لنعم الله، ازداد شعورًا بتقصيره. وهنا تقع الفجوة بين عِظم النعم وشدة التقصير، وهذه تُملأ بالاستغفار. يقول ابن القيم رحمه الله: “الفجوة بين نعمة الله وذنب العبد تُسد بالاستغفار”. وهو ما يُفهم من حديث سيد الاستغفار: “أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي”.
والذكر بهذه الطريقة هو عمل القلب واللسان والجوارح ونشير لبعض أهم أنواع الذكر الجامعة لكل ذلك:
- تلاوة القرآن الكريم: وهو أعظم أنواع الذكر. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء: 9. والقرآن في ذاته ذكر، وتلاوته هداية، ونوره في القلب لا يُطفأ إلا بالإعراض عنه.
- الاستغفار: دأب الأنبياء على دعوة أقوامهم إلى التوبة والاستغفار وهو أحد المكفرات للذنوب والسيئات.
- التسبيح): سبحان الله) تنزيه الله عن النقائص والعيوب، وهو من أعظم ما يُثقل الميزان. قال صلى الله عليه وسلم: “كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم”.
- التحميد: “الحمد لله” يملأ الميزان، كما ورد في الحديث. وهو إقرار بربوبية الله وفضله.
- التهليل: “لا إله إلا الله”. وهي أعظم الكلمات، تُرجّح ميزان العبد، وتُمحى بها الخطايا، إذا قيلت بصدق وإخلاص، كما في حديث البطاقة المشهور.
- التكبير: قول “الله أكبر”، ويجب أن يقترن هذا القول بمعناه الحقيقي: أن الله أكبر من كل شيء في حياة العبد، فيُقدَّم أمر الله على كل أمر، ويحكِّمه في كل شأن.
- الحسبلة: قول “حسبنا الله ونعم الوكيل”. قيلت على لسان إبراهيم حين أُلقي في النار، وعلى لسان النبي صلى الله عليه وسلم حين أحاط به الأحزاب.
- الحوقلة: قول “لا حول ولا قوة إلا بالله”، وهي من كنوز الجنة، كما ورد في الحديث، وتشير إلى التوكل الكامل على الله، والإقرار بضعف العبد وافتقاره.