فى العاشر من أغسطس 2025م قتل جيش الاحتلال الصهيونى الظالم، الصحفى الغزاوى الشاب أنس جمال الشريف عن عمر يناهز 28 عاما، وارتقي شهيدا إلى العلياء بإذن ربه مع خمسة من زملائه من الصحفيين الشباب، أصغرهم 24 عاما، وأكبرهم 33 عاما.
إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى
كان أنس ومعه هؤلاء الشباب الغر الميامين ينقلون للعالم جرائم الاحتلال فى شمال غزة، حيث أحرق الاحتلال الأخضر واليابس، وقتل الصغير والكبير، والصحيح والمريض، ودمر الحجر والشجر، وأهلك الحرث والنسل، بل ومسح المدينة عن بكرة أبيها، ولم يبق فيها حجرا على حجر، وحاصر المدينة، ومنع عنها الغذاء والدواء، وكل مقومات الحياة، وقتل أبناء غزة جوعا وعطشا وقصفا، ومنع الصحافة العالمية من الدخول إلى القطاع المحاصر حتى لا تفضح جرائمه، فشمر أنس ورفاقه عن ساعد الجد، ونقلوا للعالم بعضا من جرائم الاحتلال، وبالصوت والصورة رأى العالم مشاهد حرق الأحياء، وقتل الأبرياء، بل وأحيانا كان هؤلاء الشباب ينقلون بعضا من هذه الجرائم على الهواء مباشرة، وواصلوا الليل بالنهار، وبذلوا جهدا جبارا لفضح جرائم الاحتلال، وكشفوا للعالم الوجه الظالم للاحتلال الغاشم، فلجأ الاحتلال إلى الخسة والدناءة كما هى عادته دائما، وقام بتهديد أنس وصحبه من الثلة المؤمنة المجاهدة، مطالبين إياهم أن كفوا عن عملكم، وإلا سيكون مصيركم القتل والإبادة كما فعلنا بشعبكم، وبني جلدتكم، وكما رأيتم ذلك بأم أعينكم، ولم يكن تهديدا واحدا، بل تهديدات متعاقبة متوالية زادت على العشرين تهديدا، وكانت تهديدات تذهب باللعقل، وتخلع القلب، وتطير باللب.
فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ
صدرت التهديدات بالقتل إلى أنس ورفاقه من الشباب المؤمنين المجاهدين، من جيش الاحتلال المدعوم بلا حدود من حلف الناتو، بل المدعوم من العالم كله، فكان المتوقع والمأمول عند الجماهير العريضة من البشر أن تنخلع قلوب الشباب من الرعب، وأن تهتز أركانهم من الفزع، لكنهم أذهلوا العالم بثباتهم، وصمودهم، وقالوها مدوية فى جنبات الوجود بكل عز وفخار: {فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ} [طه: 72]، وتكرر التهديد، فتكرر الرد بثبات وصمود وإباء، فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ}
من أين لأنس وصحبه بهذا الثبات العجيب، والصمود الرهيب، واليقين التام فى رب الأنام، إنها العقيدة السليمة، وإنه الإيمان برب العالمين الذى يفعل بالنفس الإنسانية العجب العجاب، فيفجر الطاقات، ويأتى بالمفاجآت، فما كان من أنس وصحبه، إلا أن واصلوا عملهم على أحسن صورة، وأتم وجه غير مبالين، ولا مكترثين بتهديدات جيش الاحتلال المدعوم من الدنيا كلها، فلا بد أن يكون هذا نصرا ساحقا لأنس وصحبه، على نتنياهو ومن معه، وقالوها فى إباء قل نظيره، وندر شبيهه فى دنيا البشر: لن يكون فى ملك الله إلا ما أراد الله، نحن لسنا إلا موقنين واثقين مطمئنين، مؤمنين برب العالمين أن الأمر كله بيد الله وحده لا شريك له، وأن الأعمار والآجال بيد الله وحده، لا شريك له، كما قال قطرى بن الفجاءة:
أقول لها وقد طارت شعاعا من الأبطال ويحك لن تراعى
فإنك لو طلبت بقاء يوم على الأجل الذى لك لن تطاعى
وقال عمرو بن عامر الخزرجي:
أقو ل لها وقد جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
يقول الشيخ محمد الغزالى: “إن هذه الأبيات تصوير حسن لموقف الرجولة من المواقف الصعبة، ماذا يجديك أن تفقد رشدك إذا هددتك أو دهمتك أزمة، إن الفرار لن يرجئ أجلا حان، إنه لن يجلب إلا المعرة، فلتبقي ولتثبت فى مكانك، فالبقاء إن قتلت أروح للنفس، وإن عشت كان أدعى للحمد”
فرغم التهديدات المتعاقبة المتوالية بالقتل والإبادة من قبل المحتل الغاشم الظالم، كان قرار أنس الأخير ورفاقه: لن نوقف عملنا، وسنمضى على درب التحرير والمجد والشهادة ما دام فينا عرق ينبض، أو نفس يصعد، أو قلب يخفق.
وعجز الاحتلال عن تحقيق مراده، ونجح أنس ورفاقه فى تحقيق قرارهم، وهذه وحدها نصر ساحق للثلة المؤمنة المجاهدة المرابطة، وهزيمة ساحقة مدوية للاحتلال ومن يدعمه، فما كان من الاحتلال الظالم إلا قتل الشباب المؤمن، ليرتقوا إلى العلياء شهداء سعداء بإذن رب الأرض والسماء، ولسان حال أنس وصحبه قول القائل:
قل لإخوان رأوني ميتًا … فبكوني ورثوني حزنا
أتظنون بأني ميتكم؟ … ليس هذا الميت والله أنا
أنا في الصور وهذا جسدي … كان ثوبي وقميصي زمنا
أنا عصفور وهذا قفصي … طرت عنه وبقى مرتهنا
أحمد الله الذي خلصني … وبنى لي في المعالي سكنا
كنت قبل اليوم أناجي ملأ …. فحييت وخلعت الكفنا
وأنا اليوم أناجى ملأ ……. وأرى الله جهارا علنا
قد ترحلت وخلفتكمو …. لست أرضى داركم لى وطنا
لا تظنوا الموت موتًا … إنه كحياة وهو غايات المنى
لا ترعكم نقلة الموت … إنه ليس إلا نقلة من ها هنا
نصر ساحق للمقتول وهزيمة مدوية للقاتل:
والسؤال الذى يلح على الأذهان، ويتردد فى الوجدان، كيف لعاقل أن يستوعب أن نتنياهو القاتل قد انهزم، وأن أنس الشريف قد انتصر؟
هذا سؤال منطقى، وإيراد بديهي، ولك الحق يا صديقي أن تسأل هذا السؤال، وأن تعجب من هذه الطرح، كما تعجب منه جماهير البشر من السلف والخلف، فى الأزمنة الغابرة والحاضرة، ونجد ما يشفى النفوس، ويريح القلوب فيما رواه صهيب الرومي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له} رواه مسلم وابن حبان والدارمى
فالقتل فى سبيل الله أسمي أماني المؤمنين الصادقين المجاهدين، وهو غاية المتقين الساعين لنصرة هذا الدين، وما فعله جيش الاحتلال بأنس وصحبه، هو أسمي أمانيهم، ومنتهى أملهم، وغاية مرادهم، فكانت هذه الشهادة نصر ساحق للمتقين، وهزيمة مدوية للمحتلين، قال تبارك وتعالي: ﵟقُلۡ هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحۡدَى ٱلۡحُسۡنَيَيۡنِۖ ﵞ [التوبة: 52]
فغاية المؤمن الصادق المجاهد إما النصر وإما الشهادة، وهاتين هما الحسنيين فى ميزان الحق سبحانه وتعالي، وقال سبحانه وتعالي:
ﵟقُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَﵞ [التوبة: 51]
ففي هذه الآية الكريمة لم يقل الحق جل جلاله ” إلا ما كتب الله لنا أو علينا” بل قال تبارك وتعالي: “لنا” فقط، لأن كل ما كتبه الله سبحانه وتعالي فى حق المؤمنين المجاهدين لهم لا عليهم، إن كان النصر فهو لهم كرامة وعزة، وإن كانت الشهادة فهى لهم هدية ومنحة، ولا شىء عليهم أبدا فى طريق الحق سبحانه وتعالي، اللهم فرجا عاجلا، وفتحا مبينا لأهلنا فى غزة يا رب العالمين، الله أغثهم يا رب العالمين، وافتح لهم بركات من السماء والأرض.