بحوث ودراسات

د. حلمي الفقي يكتب: إنقاذ غزة مقدم على الحج والعمرة

يعجز البلغاء عن وصف مأساة غزة، بل تعجز المفردات في كل لغات العالم عن وصف مصاب غزة.

أهل غزة تحت حصار مطبق برا وبحرا وجوا، لا يسمح بالمرور إلا للهواء، ومنع عنهم الماء والغذاء والدواء والكساء والكهرباء، وكل المقومات الأساسية للحياة، حتى مات أهل غزة جوعا وعطشا وقتلا، ودمر الاحتلال الغاشم وجه الحياة في غزة، وقصف بآلاف أطنان المتفجرات المشافي والمخابز والأسواق والمساجد والكنائس، بل حتى آبار المياه  دمرها الاحتلال المجرم، وأصبح الحصول على رغيف في غزة أمر صعب المنال، بل حتى الحصول على شربة ماء نقية حلم يراود الكبار والصغار، حتى أصبح باطن الأرض في غزة أرحم بأهلها من ظاهرها، وأصبحت الحياة في غزة جحيما رهيبا، وواقعا أليما مخيفا.

 نصرتهم فريضة واجبة

أهل غزة هم أرواحنا وقلوبنا وعقولنا، ونحن وهم جسد واحد، وهم واحد، وألم واحد، وأمل واحد، فرحهم يسعدنا، وحزنهم يؤلمنا، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «‌مثل ‌المؤمنين ‌في ‌توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» رواه مسلم (2586)، وأحمد (18380)

وفي رواية أخرى: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» رواه مسلم.

ولأننا وغزة جسد واحد، وروح واحد، وقلب واحد، فنصرتنا لهم، نصرة لأنفسنا، وخذلاننا لهم خذلان لأنفسنا، ونصرة أنفسنا فريضة إنسانية، ودينية، عن أبي هريرة- رضى الله عنه- أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «‌المسلم ‌أخو ‌المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يسلمه” رواه مسلم (2564)، والترمذي (1927) وقوله: «لا يخذله» أي لا يترك نصرته وإعانته، فحق علينا لأهلنا في غزة نصرتهم بالمال والنفس كما ننصر أنفسنا وأبنائنا وأباءنا.

إغاثة أهل غزة أم الحج والعمرة؟

إغاثة غزة مما حل بها من دمار، وإنقاذ أهلها مما يراد لهم من إبادة وتهجير، وإغاثتهم من مجاعة ضارية تفتك بهم فتكا، وتحصدهم حصدا، أهم وأولى أم الحج والعمرة؟

وللإجابة على هذا السؤال أقول وبالله التوفيق:

أولا: حج بيت الله الحرام فريضة واجبة، بل ركن من أركان الإسلام، قال تبارك وتعالي: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ} [آل عمران: 97].

ومن أنكر وجوب الحج فهو كافر خارج عن دين الإسلام، والحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر على من توفرت فيه شروط وجوب الحج، عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: ‌أكل ‌عام ‌يا ‌رسول ‌الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».

رواه مسلم في الصحيح (1337)، وأحمد في المسند (10607)، فالحج لا يجب على من توفرت فيه شروط الوجوب إلا مرة واحدة في العمر تخفيف من ربنا ورحمة بأمة الإسلام.

ثانيا: حكم العمرة:

للعلماء في حكم العمرة رأيان: الأول:

يري الحنفية والمالكية: أن العمرة سنة مؤكدة، في العمر مرة واحدة

الرأي الثاني:

ذهب الشافعية والحنابلة – على الراجح عندهما – أن العمرة واجبة في العمر مرة واحدة كالحج.

 

ثالثا: إغاثة غزة أم حج النافلة:

الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر، وما زاد على ذلك فهو نافلة، وأما إغاثة أهل غزة فهو فرض الوقت، وواجب اليوم، بل هو من ألزم الفرائض، وأوجب الواجبات، ولا يحتمل أي تأخير، وأي تأخر في الإنقاذ يعنى المزيد من الضحايا، لهذا كان إنقاذ أهل غزة أولى وأهم من حج النافلة، لأن إنقاذ نفس واحدة يعدل عند الله تعالى إحياء الناس جميعا، قال تعالي: {مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ} [المائدة: 32]

يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الحج والعمرة ص24: «فليت الذين يتطوعون بالحج، ومثلهم الذين يتطوعون بالعمرة طوال العام، وخصوصا في شهر رمضان، يتنازلون عن حجهم وعمرتهم، ويبذلون نفقاتها في سبيل الله، أي في إنقاذ إخوانهم المسلمين والمسلمات، الذين يتعرضون للهلاك المادي والمعنوي، وللعدوان الغاشم الذي يستبيح كل حرماتهم، ولا يريد أن يبقي لهم من باقية»

إغاثة أهل غزة أفضل من مئة حجة بعد حجة الإسلام:

وهذا ما حكاه أبو طالب المكي في قوت القلوب ص 166، وحجة الإسلام الغزالي في الإحياء 3/409، عن بشر الحافي أنه قال: “فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة ‌حجة ‌بعد ‌حجة ‌الإسلام”

وحكى أبو الفرج الأصبهاني في كتاب مقاتل الطالبيين ص 324عن الإمام أبي حنيفة النعمان أنه قال:

«غزوة بعد حجة الإسلام ‌أفضل ‌من ‌خمسين ‌حجة»

فإغاثة أهل غزة تحتاج إلى جهاد بالمال والنفس والعلم وكل ألوان الجهاد، وكل ذلك أولي وأهم من حج النافلة، وهذا بإجماع العلماء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب السياسة الشرعية ص 159: «والجهاد باتفاق العلماء أفضل من ‌الحجِّ ‌والعمرة»

رابعا: إغاثة غزة مقدم على حج الفريضة:

الحج فرض عين على كل مسلم توفرت فيه شروط الوجوب مرة واحدة في العمر، ولكن أيهما أولى؟ وأيهما يقدم على الآخر حجة الإسلام أو حجة الفريضة، أم إغاثة غزة؟

أرى- والله أعلم- أن إغاثة غزة أولي من حجة الفريضة، وذلك لأدلة كثيرة، نذكر منها:

1- أن ما يحتمل التأخير أولى مما لا يحتمل التأخير، فالحج فرض عين على من توفرت فيه شروط الوجوب، إلا أنه يصح تأخيره، وقد قال بذلك غير واحد من أئمة الفقهاء، أما إغاثة غزة فلا تحتمل التأخير، وكل يوم، بل كل ساعة يزداد عدد الضحايا، ويرتفع عدد الشهداء الذين يرتقون جوعا وعطشا وقتلا على يد الاحتلال الصهيوني الغاشم، والذي يريد تصفية القضية، وإنهاء الوجود الفلسطيني.

2- مما لا شك فيه أن فريضة الحج ركن من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائر الإيمان، ولا يصح أن يخلو موسم الحج من أداء الفريضة الكبري، والشعيرة العظمى، لكنها يصح أن تقام بأهل الحرمين، وهم بالملايين، ولا يكلفهم الحج إلا نفقات يسيرة.

3- دل القرآن الكريم على أن أعمال الجهاد أفضل من أعمال الحج، قال تبارك وتعالي: {أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ 19 ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ 20}

4- المبادرة والمسارعة إلى إغاثة غزة، إنقاذ لمليونين ونصف المليون من البشر من الموت جوعا أو عطشا أو قتلا، وإحياء نفس واحدة يعدل عند الله تعالي إحياء الناس جميعا، وقتل نفس واحدة يعدل عند الله تعالي قتل الناس جميعا، قال تبارك وتعالي: {مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ} [المائدة: 32]

فإنقاذ نفس واحدة من أهل غزة يعدل عند الله تعالي إنقاذ البشرية كلها، فما بالكم بإنقاذ حياة مليونين ونصف المليون من البشر من بين أنياب احتلال فاجر غاشم ظالم تكاتفت معه كل قوى الغرب وذلك لإبادة غزة وطرد أهلها، ولا أقول وتخريب عامرها، فقد أصبحت أطلالا بالفعل، وما زال أهلها متمسكون بحقهم، متجذرون في أرضهم، رافضين كل محاولات اقتلاعهم.

5- إغاثة غزة جهاد، والجهاد فريضة واجبة في دين الإسلام، قال تبارك وتعالي: {وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} [التوبة: 41] والجهاد ليس فرضا واجبا فحسب، بل هو ذروة سنام الإسلام، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال لمعاذ بن جبل: «‌رأس ‌الأمر ‌الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله” .

رواه أحمد [22016] والترمذي [2616]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الجهاد سنام العمل}، وسنام العمل: أحسن العمل، وأرفعه، وأعلاه، والجهاد ذروة سنام الإسلام.

6- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ ‌أَيُّ ‌الْعَمَلِ ‌أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ). قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ). رواه البخاري في الصحيح [26]، ومسلم في الصحيح [135] فهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الجهاد في سبيل الله أفضل من الحج، وليس أي حج، بل الحج المبرور، وإذا كان هذا الحديث قد نص على أن الجهاد في سبيل الله في المرتبة الثانية لأفضل أعمال الإسلام بعد الإيمان بالله، فقد جاء في حديث آخر أن الجهاد في سبيل الله في المرتبة لأفضل أعمال الإسلام مع الإيمان بالله، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: « قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ‌أَيُّ ‌الْأَعْمَالِ ‌أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ»

رواه البخاري [2382]، ومسلم [136]

7- إغاثة غزة مقدمة على الحج والعمرة، لأن إغاثة غزة إنقاذ لمليونين ونصف المليون من البشر، ونفس واحدة من هذه النفوس الطاهرة أعظم حرمة عند الله عز وجل من البيت الحرام نفسه عن عبد الله بن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول: «‌ما ‌أطيبك ‌وأطيب ‌ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده! لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيرا»

رواه ابن ماجة في سننه [3932]، والطبراني في مسند الشاميين [1568].

8- وحرمة دم المؤمن ليست أعظم من حرمة البيت الحرام وحسب، بل حرمة دم المؤمن أعظم عند الله عز وجل من الدنيا كلها، فقتل نفس واحدة من أهل غزة أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا كلها، فلذا كانت المسارعة والمبادرة إلى إنقاذهم وغوثهم، ونصرتهم هي إنقاذ للدنيا كلها من آلة القتل والتدمير والإبادة عن البراء بن عازب، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (‌لزوال ‌الدنيا ‌أهون ‌على ‌الله ‌من ‌قتل مؤمن بغير حق)

رواه الترمذي [1395]، وابن ماجة [2619].

9- عن هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «‌لو ‌أن ‌أهل ‌السماء ‌والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار»

رواه الترمذي [1398] وقال الالباني: صحيح

لو أن سكان العالم الثمانية مليار إنسان اجتمعوا على قتل مسلم لأدخلهم النار، ولا يبالي، حتى لو اشترك معهم أهل السماء، لأدخلهم جميعا نار جهنم، والمشاركة في القتل أحيانا تكون بعمل إيجابي، وقد تكون بفعل سلبي، كالأم التي تمتنع عن ارضاع ولدها حتى يموت فهي قاتلة بامتناعها عن إرضاعه، وترك إنقاذ أهل غزة هو مشاركة في القتل بفعل سلبي لمن كان قادرا على إنقاذهم وغوثهم ولم يفعل، والمبادرة الى الغوث والإنقاذ لا تحتمل التأخير، حتى لا تهلك نفوس الأبرياء، أما أداء فريضة الحج فيحتمل التأخير، لهذا كانت المسارعة إلى نصرتهم فريضة مقدمة على أداء الحج.

10- عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: ‌‌ «‌لَسَفْرَةٌ ‌في ‌سبيل ‌الله أفضل من خمسين حجة»

رواه ابن أبي شيبة في المصنف [20507]، وقال محققه صحيح. ورواه عبد الرزاق في المصنف [10378]، وابن المبارك في الجهاد [225].

ومعنى سفرة أي غزوة، فالجهاد ودعم المجاهدين وأهل الرباط أفضل من خمسين حجة، كما قال ابن عمر

وخلاصة القول: ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية: «والجهاد باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة»

د. حلمي الفقي

أستاذ الفقه والسياسة الشرعية المشارك بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى