بحوث ودراسات

د. حلمي الفقي يكتب: تجويع غزة.. مروءة الجاهلية ووحشية الحضارة الغربية

التجويع سلاح فتّاك، وعضة الجوع مؤلمة موجعة قاتلة، وإذا استطاع الإنسان تحمل آلام الجوع وأوجاعه، إذا أطلقت الأمعاء الخاوية صرخات استغاثة بسبب نكبة الجوع التي حلت بالبدن، فإن صرخات استغاثة الأطفال بسبب الجوع الفتّاك القتّال، تكون أكثر قسوة، وأشد ألما، وأبلغ وجعا للآباء والأمهات، وقد يتحمل المرء الآم الجوع القاتلة، لكنه يعجز عن تحمل جوع الأبناء وفلذات الأكباد، ويعجز عن تحمل جوع الأباء والأمهات، ويعجز عن تحمل جوع المقعدين وذوي الأمراض.

والقتل بالتجويع والتعطيش – والذي يمارسه الاحتلال الصهيوني ضد أبناء غزة الأبرياء- هو أشد أنواع القتل قسوة وألما ووحشية وإجراما، لأن خروج الروح بالموت جوعا أو عطشا يأخذ وقتا أطول من كل ألوان الموت التي عرفها الإنسان، مع ما يلازم الجوع والعطش من آلام رهيبة وأوجاع عصيبة تفتك بالبدن حتى تخرج الروح، ويسكن الجسد المتعب، ويهدأ البدن المنهك.

والحصار الذي فرضه الاحتلال الصهيوني المجرم على غزة المنهكة البريئة، هو حصار قاتل رهيب، وحصار وحشي إجرامي تحرمه وتجرمه مواثيق حقوق الإنسان، ونصوص القانون الدولي، ومبادئ الأمم المتحدة، فقد فرض الاحتلال حصارا مطبقا برا وبحرا وجوا على غزة الصغيرة المتعبة، ومنع عنهم الماء والغذاء والدواء والكساء والكهرباء، ولم يسمح بالمرور إلا للهواء، ولو استطاع منعه لفعل، وقام بقصف المشافي والمخابز وآبار المياه، ودمر وجه الحياه، فنتج الحصار المجرم من الاحتلال المجرم، مجاعة رهيبة تفترس بنابها الشرس الكبار والصغار، والرجال والنساء، والشيوخ والشباب.

التجويع سلاح المجرمين:

في العام السابع من البعثة النبوية، الموافق 615م، فرض كفار مكة حصارا وحشيا رهيبا، على محمد صلى الله عليه وسلم، وصحبه، ومعهم كفار بني هاشم وبني المطلب، ومنعوا مناكحتهم، وكل ألوان التعامل معهم، ومنعوا عنهم الطعام حتى أكلهم الجوع بنابه، ووهنت أبدانهم، ومرضت أجسادهم، ونفذ طعامهم، وأكلوا الجلود، وأوراق الشجر من الجوع القاتل، ودوت في آفاق مكة صرخات الأطفال من الجوع.

شهامة كفار قريش وسفالة ووحشية الحضارة الغربية:

وحين خوت بطون الأطفال المحاصرين وارتفع أنينهم من الجوع كان كفار قريش أكثر مروءة، واوفر شهامة من كل أبناء الحضارة الغربية الحديثة في أمريكا وأوروبا، لا لسكوتهم على حصار غزة -وهذه جريمة في حد ذاتها-، بل لدعمهم الاحتلال، ومشاركته في جريمة الحصار، وتجويع الأطفال والشيوخ والمرضي، بينما نجد أن كفار مكة كانوا أكثر تحضرا ورقيا ومروءة من أبناء الحضارة الغربية جميعا، وكان لذلك مظاهر كثيرة، منها:

1- خلال ثلاث سنوات من الحصار الظالم الذي فرضه كفار مكة على محمد صلى الله عليه وسلم، وصحبه، لم يمت واحد من المحاصرين من الجوع، بالرغم من أنهم أكلوا الجلود وأوراق الشجر من شدة الجوع، بينما في غزة وحدها وخلال شهرين فقط من الحصار والتجويع مات أكثر من مئة نفس جوعا بسبب الحصار الظالم الغاشم.

2- كان من بين كفار مكة من يقوم بتهريب الطعام إلى المحاصرين، وقد نجحوا في محاولات التهريب هذه وأوصلوا بعضا من الطعام الذي خفف آلام الجوع والحصار على الأبرياء المحاصرين، وممن كان يقوم بذلك من كفار مكة هشام بن عمرو بن لؤي، وحكيم بن حزام، وأبو البختري بن هشام، وغيرهم.

3- لم يكتف أهل النجدة والشهامة من كفار قريش بإيصال الطعام إلى المعابر، أو الرجوع بطعامهم، حين يكتشف أمرهم، بل قاتلوا دون مرادهم، واشتبكوا مع خصومهم، بل مع زعيمهم ورئيسهم أبو جهل نفسه، وأوصلوا الطعام بالقوة والقتال إلى الأبرياء المحاصرين، وفي واحدة من عمليات تهريب الطعام، كان حكيم بن حزام يقود واحدة من هذه العمليات، فاكتُشفت المحاولة وتصدى لها أبو جهل بنفسه محاولا منع الطعام، فتتدخل أبو البختري بن هشام محاولا إقناع أبي جهل بالحجة والمنطق وأن هذا واجب إنساني حتى لا يموت الأطفال المحاصرين جوعا، فأصر أبو جهل على موقفه، فاقتتل مع أبي البختري بن هشام فضربه أبو البختري بلحي –عظام- جمل فشج وجهه، وأسال دمه، وتمت محاولة تهريب الطعام التي قام بها حكيم بن حزام.

فهل يتعلم العالم أجمع، وخصوصا الغرب -الذى يدعي التحضر- الإنسانية والنخوة والشهامة والرجولة من كفار مكة وأهل الجاهلية، ويقوم بفك الحصار الظالم الذى قتل أبناء غزة جوعا وعطشا، والمؤسف حقا، أننا الان وبعد مرور أكثر من تسعة عشر شهرا على هذه الحرب الظالمة لم نرى ولم نسمع من أي دولة في العالم موقفا حازما تجاه كسر الحصار، وما صدر من مواقف حتى الان لكسر الحصار هي مواقف على استحياء، بل مواقف مخجلة ومؤلمة، فعلى دول العالم بلا استثناء أن تتخذ موقفا شجاعا لكسر هذا الحصار الظالم، فهذا واجب إنساني وأخلاقي قبل كل شيء.

التجويع سلاح المهزومين:

بالنظر في أسباب الحصار والتجويع في مكة وغزة، نجد أن السبب واحد، وهو الفشل والهزيمة، فبعد أن فشلت الجاهلية الأولى في إيقاف مد الدعوة الإسلامية الصاعد، ومنيت قريش بالهزيمة تلو الأخرى في محاولاتها الجبارة لوأد نجم الدعوة المتدفق السيال، وبعد إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب، ورفض أبو طالب كل محاولات تسليم ابن أخيه، ورفض النبي صلى الله عليه وسلم، كل محاولات الترغيب والترهيب للتخلي عن دعوته، وبدأ نجم الدعوة الإسلامية يتلألأ في السماء، ويأخذ بمجامع القلوب ويجذب الأنظار، ويشد الأسماع، شعرت قريش بهزيمة مدوية، وخسارة مريرة، فلجأت إلى هذه الوسيلة الشيطانية لإيقاف المد الإسلامي الزاحف، فكان هذا الحصار الظالم الغاشم، والتجويع القاتل للأبرياء العزل الذيم لم يرتكبوا جرما في حق إنسان، ﴿وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ﴾ [البروج: 8] فكان الحصار سلاح الهزومين الذين أعيتهم الحيل، وعميت أبصارهم، وضلت عقولهم عن تحقيق النتيجة التي يسعون إليها، والهدف الذي يرمون إليه، وهذا هو عين السبب الذى ألجأ الاحتلال الصهيوني ومعه أمريكا وأوروبا إلى فرض الحصار الظالم على أهل غزة الأبرياء، فبعد أن أوسعوا غزة قتلا وقصفا من الجو والبحر والبر، وبعد أن ألقوا على غزة أكثر من مائة ألف طن من المتفجرات، ودمروا المشافي والمخابز والمدارس والمساجد والكنائس والبيوت والطرقات، ودمروا أكثر من 80% من مباني غزة، وقتلوا أكثر من اثنين وخمسين ألف شهيد، ولم تجد جثامين الشهداء من يواريها الثرى فنهشتها الكلاب والسباع، كما حدث مع سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وبعد كل هذا الإجرام، لم يرفع أبناء غزة الراية البيضاء، وكان رأيهم أن المقاومة للاحتلال حق مشروع، بل هي شرف لكل من حمل لوائها، ودافع عن أبنائها، فكانت هزيمة مدوية للاحتلال المدعوم من أمريكا وأوروبا وحلف الناتو، فلجأ الاحتلال إلى هذه الحيلة الشيطانية، وكان الحصار المطبق المدمر، ولجأ إلى الحصار والتجويع ليكسر إرادة الشعب الصامد الصابر المتمسك بحقه المتجذر في أرضه، ولن تكون النتيجة بإذن الله تعالي، إلآ نصرا كبيرا، وفتحا مبينا، لأبناء الأرض المدافعين عن الأرض والعرض والمقدسات، والقبلة الأولى للمسلمين، قال تبارك وتعالي: ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ [آل عمران: 178]

 وقال جل جلاله: ﴿فَسَيُنۡغِضُونَ إِلَيۡكَ رُءُوسَهُمۡ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَرِيبٗا﴾ [الإسراء: 51]

د. حلمي الفقي

أستاذ الفقه والسياسة الشرعية المشارك بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى