يري المنافقون والأشرار أن غزة قد خسرت خسرانا مبينا، وأن ما حل بها من خراب ودمار لم ينزل بأمة من الأمم، وأن المجاهدين من أبناء غزة قد ضلوا ضلالا بعيدا، وأن تصرفاتهم المجنونة قد أفضت إلى قتلهم، وتدمير بلدهم، وقتل الأبرياء من بني وطنهم.
وهذا القول المنحرف، وهذا الفكر الضال، قد صرخ به من قديم الزمان المنافقون والمجرمون والمرجفون، في كل جولة من جولات الصراع بين الحق والباطل، قال الله تبارك وتعالي: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} (الأنفال: 49)
حين خرج محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه إلى بدر الكبري، وكان قصدهم العير، ولم يعدوا العدة للنفير، ولكن إرادة الحق سبحانه وتعالي كانت تهيئة الأسباب للنفير لا للعير، قال الحق جل جلاله: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} (الأنفال: 7)
في هذا الوقت ارتفعت حناجر المنافقين والمجرمين بالهمز واللمز، والسخرية والاستهزاء بالمؤمنين المجاهدين الذين خرجوا لملاقاة الكافرين رغم الفارق الهائل في القدرات والإمكانات، والعدة والعتاد، ويمكن القول أن غزوة بدر كانت معركة بين القوة الكبرى في الجزيرة العربية في هذا التوقيت(قريش)، وبين المجموعة الأضعف في الجزيرة العربية في حينها (المؤمنين)
فانتهز المرجفون والمنافقون الفرصة، وخرجوا مستهزئين شامتين ساخرين، متنكرين في ثوب الناصحين، فقالوا للمؤمنين لا طاقة لكم بالكافرين، وما لكم وسع ولا قبل لكم بأبي جهل وجنده، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولا تجلبوا الخراب والدمار، والفقر والذل والعار لبلدكم وأهليكم، تماما كما يفعل المنافقون اليوم.
وما درى هؤلاء المرجفون أن هؤلاء رجال أحبوا ربهم، وعشقوا دينهم، وأحبوا وطنهم فحرصوا على الدفاع عن دينهم وأرضهم وعرضهم ومقدساتهم، حتى لو كان ثمن ذلك أرواحهم، وحياتهم، ومهجهم، وفلذات أكبادهم، وعيون أموالهم، هؤلاء رجال حرصوا على الموت كحرص أعدائهم على الحياة، ومن حرص على الموت وهبت له الحياة، فقام هؤلاء الفتية متوكلين على ربهم، مستعينين بخالقهم، وأعدوا ما استطاعوا من قوة، ومن رباط الخيل، وبذلوا جهدا خارقا للعادة في سبيل الوصول إلى هذه القوة حتى ولو كانت قليلة، وتوكلوا على الله جل في علاه، ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم، ومن يتوكل على الله فإن جند الله هم الغالبون، فقذف الحق جل جلاله الرعب في قلوب عدوهم، قال جل جلاله: { وما النصر إلا من عند الله} (الأنفال: 10)
وقال سبحانه وتعالي: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (ال عمران: 160)
فإذا كان اليهودي يفرك يديه فرحا مستبشرا هاتفا: النصر لنا، لأن ترامب معنا، أو النازي الألماني يدعمنا، أو الفاشي الإيطالي في صفنا.
فنحن المسلمين نهتف بيقين يغمر قلوبنا النصر حليفنا، لأن الله معنا، ومن كان الله معه فلا غالب له، لأن الله عز وجل هو القوة الوحيدة في هذا الوجود، وما سواه فهو مخلوق ضعيف لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا أن يملك شيئا من ذلك لغيره، مهما بدا قويا مهيمنا، فهو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه موتا ولا هرما ولا ضرا ولا نفعا، قال الحق سبحانه وتعالي: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} (الطور: 41)
ترى لو أن الحق قالها لليهود الملاعين، لافتخروا بها إلى يوم الدين، لكن الحق خاطب بها المجاهدين من المؤمنين، من أهل غزة وأمثالهم في ربوع العالمين، فما لهم لا يجاهدون وقد تعهد رب العالمين بأنهم في حمايته، وفي حفظه، بل وفي عينه.
فتبارك الله رب العالمين، هو أصدق القائلين، وأحكم الحاكمين، وأحسن الخالقين، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وقد تعهد وتكفل رب العالمين بدحر الكافرين وسحقهم، وبث الرعب في قلوبهم، قال تبارك وتعالي: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار} (الحشر:2)
وقال جل جلاله: {عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا} (النساء: 84)
فكل عسى من الحق جل جلاله واجبة محققة واقعة، بلا أدني شك، والمعنى في هذه الآية الكريمة: قد أوجب ربكم وتعهد أن يكف بأس الذين كفروا، ويسحقهم، ويدحرهم، ويدمرهم، ونقول: صدقت ربنا، وقلت وقولك الحق، ووعدت فأوفيت وأنجزت، ومن أصدق من الله قيلا، ومن أصدق من الله حديثا، وقد أفلح من بني البشر من ذل لربه، وانقاد لأمره، وخضع لقوله، وصدق وعده، وقال تبارك وتعالي: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} (الأعراف: 129)
والمعنى قد أوجب ربكم أن يهلك عدوكم، ونحن المسلمين لا نشك أدني شك أن الله ناصر عبده، ومنجز وعده، فهذا أمر كائن لا محالة. وقال جل جلاله: {عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده يصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} (المائدة: 52) والمعنى أن الحق جل في علاه، قد قضي وأمر وأوجب أن يفتح على عباده المؤمنين، وجنده المخلصين، فتوح النبيين، والصديقين، وحتى يطمئن قلب المؤمن، ويسكن فؤاده، ويهدأ وجدانه، توالت الوعود من رب الوجود بنصر المؤمنين، وتدمير الكافرين في آيات كثيرة في القرآن الكريم، منها: قول الحق تبارك وتعالي: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر: 45)
وقال جل جلاله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} (المجادلة: 21)
وقال تبارك وتعالي: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 171،172،173)
وقال سبحانه وتعالي: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} (غافر:51)
وقد يقول قائل، أو يفتري كاذب فرية واهية ساقطة لا تقوم على ساق، ويقول: كيف لفئة قليلة ضعيفة محاصرة منذ عقدين من الزمان أن تنتصر على المحتل الغاصب المدعوم بلا حدود من القوى الكبري في الأرض.
وللإجابة على هذه الفرية نقرأ قول ربنا سبحانه وتعالي: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} (القصص: 5)
وقول الحق تبارك وتعالي: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسني على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} (الأعراف: 137)
فمن صفات الفئة المؤمنة المنتصرة التي يمكن لها رب العالمين أن تكون ضعيفة السلاح، قيلة المال، ابتعد عنها الخلان، وهجرها الأعوان، لكنها قوية بإيمانها، متوكلة على ربها، تملك قلبا يوقن عين اليقين أن لا غالب إلا الله، وأن النصر من عند الله وحده، وهذا اليقين التام في الله جل في علاه، هو الذي بلغ بموسي منزلة أولى العزم من الرسل، فحين أدركه فرعون وجنده، وكان العدو من أمامهم، والبحر من خلفهم، وبلغت القلوب الحناجر، وأيقنوا بالهلاك، قال موسي في يقين تام {كلا إن معي ربي سيهدين} فكانت النجاة منحة ربانية، ومعجزة إلهية للموقنين بربهم المتوكلين على خالقهم.
وهنا يرد خاطر فيقول هذا حديث عن النبيين والمرسلين، والصحابة والتابعين، وما يصدق عليهم لا ينطبق على أهل فلسطين.
فيجيب العلماء الربانيين: لقد اتفق الثقلين على أن محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد المرسلين، وأفضل خلق الله أجمعين، وأن صحابته رضوان الله عليهم هم أفضل جيل عرفه التاريخ الإنساني، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن قوم يأتون بعد صحابته الواحد منهم بخمسين صحابيا، عن أبي ثعلبة الخشني رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم، قيل يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم، قال بل أجر خمسين منكم} رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان وغيرهم.
ونحسب أن من هؤلاء أهل غزة، والله حسيبهم ولا نزكيهم على ربهم، فقد جاهدوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا، الذين احتلوا أرضنا، ودنسوا مقدساتنا، واغتصبوا بلادنا، واحتلوا مسري نبينا، وقبلة المسلمين الأولى، جاهدوا وهم جوعى وعطشي، جاهدوا وهم لا يجدون ما يسد رمقهم، ويستر عوراتهم، وأبلوا بلاء تعجب منه الدنيا كلها، ولهذه البطولات الخارقة، والتضحيات البارعة، ومواقف الثبات المذهلة، ولهذا الصمود الأسطوري أحسب أن الواحد من هؤلاء ليس أفضل من خمسين صحابيا، بل الواحد منهم افضل من خمسين من شهداء الصحابة، عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { إن من ورائكم زمان صبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا منكم} رواه الطبراني والبزار، وصححه الألباني.
ولهذا أصاب من قال: إن الرجل في غزة بخمسين صحابيا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أصاب من قال إن المجاهد في سبيل الله من أهل غزة له أجر خمسين شهيدا من شهداء الصحابة بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولهذا نوقن يقينا لا يعرف الشك أن غزة في عين الله وحفظه وحمايته، وأن الله جل جلاله ناصر أهل غزة وممكن لهم في الأرض، ومظهرهم على عدوهم، ولن يضرهم من خذلهم.