اتفقت البشرية قاطبة على تحريم الربا، ولم يقل بحل الربا واحد من البشر يهوديا أو نصرانيا أو إسلاميا، فالربا حرام في اليهودية والنصرانية والإسلام، بل الربا حرام عند علماء الدين والشرائع المعاصرة والغابرة، والأديان السماوية والأرضية، وتطابقت كلمة علماء الاقتصاد المعاصر مع كلمة علماء الأديان في مختلف البلدان وسائر الأزمان على حرمة الربا، وحرمة فوائد البنوك دون أدني شكوك، وتواترت الفتاوى على ذلك، وانعقدت المجامع الفقهية، والمؤتمرات المصرفية على أن فوائد البنوك هي عين الربا المتفق على تحريمه، وانعقد على ذلك إجماع البشر من الليبراليين والعلمانيين، والنصارى والإسلاميين، والشرقيين والغربيين من علماء الأديان، ومن أساطين الاقتصاد في المذاهب الاقتصادية المعاصرة، بل وقادة الدول ورجال السياسة في كل الأمصار وسائر الأقطار، فقد نشرت سي إن بي سي بالعربية في 11/6/2025م : «من جديد طالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رئيس الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة بسبب ارتفاع نسبة التضخم إلى 2.4% خلال شهر مايو 2025م، وقبل ذلك دعا ترامب لخفض أسعار الفائدة لمواجهة الإجراءات الاقتصادية الصعبة، وعلى رأسها موجة رفع الرسوم الجمركية خلال الشهور الأخيرة»
فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو رجل سياسة، وليس من علماء الاقتصاد أدرك ما توافق عليه البشر في كل زمان ومكان من خطورة فوائد البنوك على الاقتصاد وعلى الكثير من مجالات الحياة فأرسل صرخاته وتحذيراته لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي بضرورة خفض أسعار الفائدة، وكانت تلك الصرخات، وهذه التحذيرات متعاقبة متواترة، فقد نشرت سي إن بي سي بالعربية في يوم الجمعة 27/6/2025م بعض وقائع مؤتمر صحفي عقد بالبيت الأبيض وبثته على الهواء مباشرة الكثير من وسائل الإعلام المرئية في السابع والعشرين من يونيو 2025م، وفيه هاجم ترامب من جديد جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ووصفه بأنه غبي وأحمق بسبب عدم خفض أسعار الفائدة، وقال الرئيس الأمريكي ترامب: يجب أن يكون سعر الفائدة 1%، وأن معدل الفائدة الحالي 4.5% مرتفع جدا، وأن خفض سعر الفائدة نقطتين في المائة يوفر على أمريكا 600 مليار دولار سنويا، وقال ترامب: إن أمريكا تخسر هذا المبلع سنويا بسبب شخص أحمق – يقصد جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي – يجلس هنا ويقول: لا أرى مبررا لخفض أسعار الفائدة”
ففوائد البنوك شر كبير، وبلاء خطير، يوقف عجلة الاقتصاد، وهي سبب لخراب البنيان، وتخلف البلدان، ودمار العمران، وذلك لأنها حرب من الخالق على المخلوق، ولا طاقة للدنيا كلها، بل ولا للوجود كله بمحاربة الخالق سبحانه وتعالي، ﴿فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ﴾ [البقرة: 279]
وكانت فوائد البنوك هي السبب الأهم للأزمات المالية العالمية المتعاقبة التي نزلت بالاقتصاد العالمي فكبدته خسائر فلكية رهيبة، وكان آخر هذه الأزمات، وليس آخرا، هي الأزمة المالية العالمية في 2008م، وكبدت الاقتصاد العالمي خسائر فلكية هائلة تفوق كل تصور، وتتخطى خيالات البشر، فقد بلغت الخسائر قرابة خمسين تريليون دولار، حسب تقديرات خبراء المصرف الأسيوي للتنمية «أي دي بي» وذلك حسبما نشر على موقع الجزيرة نت في 29/8/2009م،
وكان السبب الأهم والأخطر والأبرز لهذه الأزمة المالية هي فوائد البنوك فيما سمي وقتها أزمة الرهون العقارية الأمريكية، وكانت هذه الأزمة واحدة من الفواجع الكبار، والمصائب الضخام، والنوازل العظام التي حلت بالإنسانية كلها في مختلف الأقطار والأزمان والبلدان، وكانت واحدة من القوارع التي أصابت الفكر الاقتصادي في الغرب فجعلته يوقن بأن فوائد البنوك مصيبة عظمى، وداهية كبري حلت بالنظام الاقتصادي العالمي، وكانت هذه واحدة من أسباب صراخ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بضرورة خفض الفائدة لتجنب الكوارث التي تنزل بالاقتصاد، ولذا أجمع أكابر علماء الاقتصاد المعاصر على خطورة فوائد البنوك على الاقتصاد العالمي، في كتابه «بحوث في الربا» يحكى المصنف عن اللورد «يويد أور» قوله: إن الفائدة سبب أصيل من أسباب الاضطراب الاقتصادي الراهن، سواء أخذ هذا شكل أزمات دورية، أم أخذ شكل التفاوت الظالم في توزيع الدخول الأهلية، أم أخذ شكل عقبات في سبيل السير نحو التوظيف الكامل، وأن الذي يشجع نظام الفائدة هو عدم الوصول إلي حد عملي للتغلب على هذه المشكلة التي تمس الاقتصاد العالمي في الصميم.
ويقول سيلفيو جيزال [1862 – 1930]: «إن نمو رأس المال يعوقه معدل فائدة النقود، ولو أن هذه الفائدة أزيلت لتضاعف نمو رأس المال في العصر الحديث لدرجة تبرر خفض سعر الفائدة إلى معدل الصفر في فترة وجيزة”
وعلى أثر الأزمة المالية العالمية في 2008م، أكد عالم الاقتصاد الفرنسي الشهير “موريس آلييه” والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد على أن الأزمات المالية الطاحنة التي تضرب الاقتصاد العالمي بقيادة الليبرالية المتوحشة تجعل الاقتصاد العالمي على حافة بركان يهدد بالانهيار، وقد اقترح موريس آلييه للخروج من هذه الأزمات، وإعادة التوازن للاقتصاد العالمي شرطين اثنين:
الأول: تعديل سعر الفائدة إلى حدود الصفر
الثاني: مراجعة معدل الضريبة إلى ما يقرب من 2%
وهو ما يتطابق تماما مع تحريم الربا في الإسلام، ومن أهم صوره فوائد البنوك، وقد صدرت الفتاوى بحرمتها بالإجماع، والمقترح الثاني هو ما يتطابق مع نسبة الزكاة في الإسلام، قال الله عز وجل: {سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ} [فصلت: 53]
وأصرح وأوضح مما سبق ما كتبه بوفيس فانسون رئيس تحرير مجلة تشالنجر: في 5/10/2008م عن الأزمة المالية العالمية، فكتب قائلا: ” إننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن الكريم بدل الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن الكريم من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزرى لأن النقود لا تلد النقود”
وفي العام 2024م بلغ حجم الدين العالمي 328 تريليون دولار، وهو أكثر من ثلاث أضعاف الناتج الإجمالي العالمي، وهو ما ينذر بكوارث وأزمات مالية طاحنة ومدمرة لأي نمو اقتصادي محلى أو عالمي، خصوصا إذا علمنا أن ديون أمريكا وحدها بلغت 35 تريليون دولار، وهي القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وهي في الوقت ذاته المدين الأكبر في العالم، بل المدين الأكبر في التاريخ.
وتأتي نسبة الاقتصاد المالي في العالم إلى نسبة الاقتصاد العيني كنذير بمصيبة عظمى تهدد الاقتصاد العالمي بخطر كاسح يأكل الأخضر واليابس، فقد بلغ الاقتصاد المالي في العالم أكثر من خمسين ضعف الاقتصاد العيني، والمفروض حسب قواعد السياسة النقدية في علم الاقتصاد أن يكون الاقتصاد المالي مساويا للاقتصاد العيني، أو يزيد ضعفين أو ثلاثة أضعاف، أما أن يصل إلى خمسن ضعف فهذه مصيبة لا حدود لها، ولهذا أسباب كثيرة منها: فوائد البنوك، وبيع الديون، والتوسع في التعامل في عقود المستقبليات والخيارات، وإصدار السندات، والتوسع في طبع الأوراق النقدية زيادة فاحشة تجاوزت الحد المسموح به في ضوابط السياسة النقدية المتعارف عليها لدى علماء الاقتصاد المعاصر، ومما يبعث على الفخر والاعتزاز بدين الإسلام أن كل هذه الأسباب المدمرة للاقتصاد قد حرمتها شريعة الإسلام، فكان هذا إعجازا تشريعيا سبقت إليه شريعة الإسلام معارف الدنيا، وعلوم الإنسانية بأكثر من ألف وأربعمائة عام.
يقول جون ماينارد كينز رائد الاقتصاد المعاصر: ” إن ارتفاع سعر الفائدة يعوق الانتاج، لأنه يغرى صاحب المال بالادخار للحصول على عائد مضمون دون تعريض أمواله للمخاطرة في حالة الاستثمار في المشروعات الصناعية والتجارية كما أنه من ناحية أخرى لا يساعد رجل الأعمال على التوسع في أعماله، لأنه يري أن العائد مع التوسع -بما فيه من مخاطر- لا يعادل الفائدة التي سيدفعها المقترض، وعلى ذلك فكل نقص في أسعار الفائدة سيؤدى إلى زيادة في الانتاج، وبالتالي في العمالة، وإيجاد الفرص لتشغيل المزيد من الناس”
والخلاصة: أن فوائد البنوك خطر داهم، وبلاء ماحق ينذر بتدمير الاقتصاد المحلى والعالمي، وهو ما أكدته وقائع الأزمات المالية العالمية الطاحنة التي قرعت أركان الاقتصاد العالمي منذ أزمنة بعيدة، وعقود مديدة، وهذه واحدة من أعظم أوجه الإعجاز التشريعي في الإسلام، والتي سبق فيها الدنيا كلها، وقد فطن لذلك مؤخرا علماء الاقتصاد في الغرب، بل وبعض رجال السياسة، ومن هذا المنطلق كانت صرخة الرئيس ترامب بضرورة خفض أسعار الفائدة.