د. حلمي الفقي يكتب: نشأة علم الكلام

1- علم الكلام هو علم العقيدة، أو هو علم التوحيد، والعقيدة هي ما يعتقده الإنسان، أو هي ما ينعقد عليه قلب الإنسان نحو خالقه، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
ولذا قالوا في تعريف علم الكلام: هو علم يبحث فيه عما يجب وما يجوز وما يستحيل في حق الله عز وجل، وفي حق رسله، وما يجب اعتقاده عن السمعيات، وهي الأمور التي سمعنا عنها ولم نرها، مثل القبر ونعيمه وعذابه، والبعث، والحساب، والجنة والنار.
2- التوحيد هو أصل الإسلام، بل هو أصل الأديان، وهدف القرآن، والفارق الأهم بين الكفر والإيمان، ولقد سار القرآن الكريم في بيانه لعلم التوحيد على خطين متوازيين:
الأول: بناء العقيدة الصحيحة في القلوب عن طريق إعمال الفكر، واستعمال العقل، وكان القرآن الكريم بليغا مبينا في عرض العقيدة عرضا سهلا يبهر الألباب، ويأخذ بالعقول، ويمتع الوجدان، ويشنف الآذان، فنوع الأساليب، وضرب الأمثال، وساق الأدلة التي تقنع العقل، وتوافق الفطرة، فبين للناس دينهم، وأعلمهم بما يجب عليهم اعتقاده تجاه خالقهم، وتجاه دينهم.
الثاني: هدم كل عقيدة غير عقيدة التوحيد، فلا يوجد في الدنيا إلا كفر وإسلام، باطل وحق، شر وخير، فكل دين غير دين الإسلام هو عقيدة باطلة مصيرها جهنم وبئس المصير.
3- كان الصحابة رضوان الله عليهم يأخذون عقيدتهم سليمة نقية من القرآن الكريم، وما أغلق عليهم فهمه، أو غاب عنهم هدفه سألوا عنه معلمهم، وأستاذ الإنسانية كلها محمد صلى الله عليه وسلم، فكان يجيبهم أروع بيان، ويوضح لهم معانى القرآن، وأركان الإسلام، وأصول الإيمان، فكانوا أحسن المستمعين، وأروع المتعلمين، وأفضل المريدين، وأصبحوا أفضل جيل في التاريخ الإنساني كله، ونزل فيهم قول الحق سبحانه وتعالي: ﴿لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا ﴾ [الفتح: 18]
4- وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل دفن الجثمان الشريف، اجتمع أكابر الصحابة رضوان الله عليهم في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في حراسة الدين، وسياسة الدنيا، ورئاسة الدولة، فاختاروا أبا بكر رضى الله عنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليصبح بذلك أول رئيس دولة منتخب في التاريخ الإنساني كله، وتم الانتخاب بصور رائعة، وغير مسبوقة، فتقدم عمر بن الخطاب رضى الله عنه فكان أول المبايعين «المنتخبين»، وتبعه أكابر الصحابة بما فيهم على بن أبي طالب رضى الله عنه، وتبعهم جموع الصحابة من المهاجرين والأنصار، وتم الانتخاب بما يشبه الإجماع، إن لم يكن إجماع بالفعل.
وكانت عقيدة المسلمين في عهد الخليفة الأول رضى الله عنه سليمة نقية صحيحة كما أرادها رب العالمين تبارك وتعالي، وانشغل المسلمون في عهد أبي بكر الصديق رضى الله عنه بحروب الردة، وتثبيت أركان الدولة، وحققوا في ذلك نجاحا باهرا، وإنجازا ساحرا، وتوفي أبو بكر الصديق رضى الله عنه في جمادى الثانية 13هـ، بعد أن قضى في الخلافة سنتين وثلاثة أشهر.
5- وانتخب المسلمون عمر رضى الله عنه خليفة، وأميرا للمؤمنين، ورئيسا لدولة المسلمين بعد وصية أبي بكر الصديق رضى الله عنه، وأصبح عمر خليفة بانتخاب المسلمين، لا بعهد أبي بكر، فهذا العهد مجرد وصية غير ملزمة، وللمسلمين الحق في أن يقبلوها، أو يرفضوها، وليس هنا مجال التدليل على ذلك.
وفي عهد عمر انتشر الإسلام في المشارق والمغارب، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وكانت العقيدة في النفوس سليمة، والأخلاق مستقيمة، والدولة كلها أسرة واحدة متحابة متعاونة متكافلة، فأغاظ ذلك أعداء الحق والفضيلة، فتآمروا على قتل الفاروق، فطعنه «فيروز» الملقب بأبي لؤلؤة، وهو يصلى الفجر إماما بالمسلمين في ذي الحجة 23هـ.
6- واختار المسلمون عثمان بن عفان رضى الله عنه أميرا للمؤمنين، ورئيسا للدولة، بعد استشهاد عمر رضى الله عنه، وفي عهده اتسعت الفتوحات، وكثرت الولايات، وتتابع دخول جماهير عريضة من البشر في دين الإسلام، فاختار عثمان رضى الله عنه أهل الكفاءة لشغل المناصب الرفيعة في الولايات المترامية، والأقطار المتباعدة، فكان من هؤلاء بعض أقاربه، اختارهم لكفائتهم لا لقرابتهم، فانتهزها أعداء الإسلام فرصة لبث الفتنة، وتمزيق صفوف الأمة الواحدة، وكان من هؤلاء عبد الله بن سبأ اليهودي الذى تظاهر بالإسلام ليكيد للحق وأهله، وحرض الغوغاء والدهماء على الرجل الصالح، والرئيس المصلح عثمان بن عفان رضى الله عنه، فاقتحموا عليه داره، وقتلوه في ذي الحجة 35هـ، وهو يقرأ القرآن، رضى الله عنه وأرضاه.
7- واختار المسلمون عليا رضى الله عنه خليفة للمسلمين، وأميرا للمؤمنين، فقبل مضطرا رضى الله عنه، لجمع كلمة المسلمين، ولم شملهم، وتوحيد صفهم، ولكن قد تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن، وكانت لمشيئة الله جل في علاه رأى آخر، فوقع الخلاف بين المسلمين، وتشيع كل مذهب لفريقه، وظهر التشيع لال البيت، وكان من الشيعة المنحرف والأشد انحرافا، والمغالي والأشد مغالاة، ووقع الخلاف بين على ومعاوية، واختاروا التحكيم، فظهر الخوارج ورفضوا التحكيم، وخرجوا على الإمام على رضى الله عنه، وكان للشيعة والخوارج آثار مدمرة في العقيدة الإسلامية، والفكر الإسلامي بعد ذلك.
8- وظهرت جماعة من الناس لزموا الحياد بين على ومعاوية، رضى الله عنهما، ولم يميلوا لأى من الفريقين، وأرجئوا الحكم فيهما إلى الله تبارك وتعالي، فسموا ب “المرجئة”، ومنهم سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وغيرهم رضى الله عنهم جميعا، ولكن بعد وفاة الصدر الأول من المرجئة، ظهرت نحلة جديدة من المرجئة لا علاقة لها بالصدر الأول، وكان لها أسوأ الأثر في الفكر الإسلامي في القرون المتعاقبة.
9- وفي عام 40هـ دبر الخوارج مؤامرة لقتل ثلاثة من كبار الصحابة رضوان الله عليهم، وهم “على” و “معاوية” و “عمرو بن العاص” ونتيجة لهذه المؤامرة الشنيعة قام عبد الرحمن بن ملجم بقتل سيدنا على رضى الله عنه، في المسجد في صلاة الفجر في رمضان سنة 40هـ
وبايع أهل العراق الحسن بن على خليفة للمسلمين، ومن أجل جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم، تنازل الحسن بن على عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان في ربيع الأول سنة 41هـ، بعد ستة أشهر من اختياره خليفة للمسلمين.
وبتنازل الحسن بن على، وتولى معاوية الخلافة توحدت كلمة المسلمين، وزالت كل أسباب الفرقة، واجتمعوا على إمام واحد، وإدارة واحدة للمسلمين في العالم أجمع، والفضل في ذلك كان لسيدنا الحسن بن على في خطوته الرائعة بتنازله عن الخلافة لسيدنا معاوية، وتحقق بذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين} رواه البخاري.
10- وفي عهد الدولة الأموية ظهرت فرق ضالة كان لها أقبح الأثر في الفكر الإسلامي بعد ذلك، وبعض هذه الفرق قد ضلت ضلالا بعيدا أخرجها من الدين بالكلية، وبعضها ضل ضلالا يفسقها ولا يخرجها من الدين، ومن الفرق التي ضلت ضلالا بعيدا “القدرية” وأول من دعا لهذه الضلالة هو معبد بن خالد الجهني [ت:80هـ] وقد نفي القدر، وقال إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، وذهب أكثر من ذلك فقال: «لا قدر والأمر أُنُفْ» تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وفي المقابل ظهرت فرقة ثانية مثل الأولى أو أضل سبيلا، وهي «الجهمية» أو «الجبرية» فقالوا بالجبر، وقالوا: إن الإنسان «مسير لا مخير»، والإنسان كالريشة في الهواء، لا يملك من أمر نفسه شيئا، وكان أول من دعا إلى هذا الضلال هو الجعد بن درهم [ت: 118هـ]، وتبعه الجهم بن صفوان [ت:128هـ]
11- وبانتهاء القرن الأول الهجري ظهرت في الدولة الإسلامية خمس فرق: الثلاث الأولى: الشيعة، والخوارج، والمرجئة حول قضية الخلافة، والرابعة والخامسة -القدرية والجبرية- حول قضية الجبر والاختيار.
وكانت هذه الفرق الخمس جميعا بيئة خصبة لكل من أراد من أن يكيد للإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين والمرجفين، وقد حاولوا بكل السبل تشويه العقيدة الإسلامية، وطمس جمالها، وتعكير صفوها.
12- كانت صفات الله تبارك وتعالي من الموضوعات التي ثار حولها الخلاف والجدل، فقد وردت آيات في القرآن الكريم، وأحاديث في السنة النبوية، قد يوهم ظاهرها تشابها بين المخلوق وبين الخالق جل جلاله، وتنزهت أسمائه، وتقدست صفاته عن مشابهة مخلوقاته.
فأما أصحاب العقيدة السليمة وذوي الإيمان الحق، فآمنوا بالله جل في علاه، وبأسمائه وصفاته بلا تأويل ولا تعطيل، ونزهوا الخالق عن مشابهة مخلوقاته، وأما أصحاب القلوب المريضة فشبهوا حينا وعطلوا حينا، وهذا وذاك مما يجب على المؤمن أن ينزه عنه مولاه جل في علاه، وتنزهت أسمائه، وتقدست صفاته.
13- العقيدة الإسلامية الصحيحة، والتي جاء بها القرآن الكريم توجب للحق سبحانه وتعالي كل كمال يليق بذاته المقدسة، وتنفي عنه سبحانه وتعالي أي نقص، بل يستحيل في حقه أي نقص، والتحسين والتقبيح يكون بالشرع لا بالعقل، ولكن ومع بداية القرن الثاني الهجري ظهرت فرقة المعتزلة، وخالفت عقيدة أهل السنة والجماعة، وقالوا بأشياء كثيرة تخالف عقيدة أصحاب الإيمان الحق، وكان ظهور هذه الجماعة على يد واصل بن عطاء [80 – 131هـ] تلميذ الحسن البصري [21 – 110هـ]، وقال أهل الاعتزال بخلق القرآن، واستخدموا السلطان في إيذاء معارضيهم، والتنكيل بمخالفيهم في الفكر والرأي، وقال الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه، ومعه ثلة من أصحاب العقيدة السليمة: بأن القرآن الكريم كلام الله جل في علاه، وكلام الباري غير مخلوق، فأنزل السلطان بالإمام أحمد عذابا أليما لا تقوى على حمله الجبال في هذه المحنة المريرة التي تطاير شررها عبر القرون، وتعاقب أثرها في الأجيال التالية.
14- بدأت محنة خلق القرآن في عهد الخليفة المأمون في العام 212هـ، ومال الخليفة إلى رأى المعتزلة القائل بخلق القرآن، لكنه ترك المخالفين وما يقولون، ولم يحملهم بقوة السلطان على القول بغير ما يرون، ومضت الدولة في حرية تحسد عليها قرابة ست سنوات، حتى كان العام 218هـ، وهو العام الذى مات فيه المأمون، وبدا للخليفة أن يحمل المخالفين بقوة السلطان على القول بخلق القرآن، وذلك قبل وفاته بشهور، واستمرت هذه المحنة بعد وفاة المأمون في عهد المعتصم، وفي عهد الواثق، ولم تنتهي إلا بتولي المتوكل الخلافة بعد وفاة الواثق في العام 232هـ، فكان عمر هذه المحنة أربعة عشر عاما ذاق خلالها الإمام أحمد صنوقا من العذاب والالام تعجز عن حملها الجبال، لكنه ثبت على موقفه، ولم يتزحزح قيد أنملة رغم الترهيب الرعيب، والترغيب الحبيب، حتى انتهت المحنة بتولي المتوكل الخلافة، فأبعد المعتزلة الذين حرضوا السلطان ضد مخالفيهم في الرأي، وحرضوا على قتل أحمد بن نصر الخزاعي حتى قتله الواثق بيده في العام 231هـ، لأنه قال إن القرآن الكريم كلام الله تبارك وتعالى غير مخلوق.
15- مع تولى المتوكل الخلافة في العام 232هـ، عمت حرية الفكر أرجاء الدولة، وسمح للعلماء أن يقوموا بدورهم في نشر الفكر، وإبداء الرأي دون اضطهاد أو إيذاء من الدولة أو من المخالفين في الرأي، فكانت فرصة عظيمة للإمام أحمد أن يوضح أركان عقيدة الإسلام كما جاء بها القرآن، ولم يأت الإمام في ذلك بدين جديد، ولم يخترع عقيدة جديدة، لكنه فقط وضح للناس ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من عقيدة جاء بها الوحي من عند الله عز وجل.