د. ربيع عبد الرؤوف الزواوي يكتب: الفتوى الأولى في حياتي
من صندوق الذكريات

في وقت مبكر من أوائل الثمانينيات -وكان ذلك في أواخر عهد السادات فيما يغلب على ظني- وقعت أحداث هذه الفتوى الجريئة مني وأنا -آنذاك- في الصف الثالث الإعدادي، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه (لماضة) أو (جرأة) أو كما يقولون هذه الأيام (هبد).
كان لوالدي عليه رحمة الله صديق صدوق؛ وهو عم حميدة أبو عليان رحمه الله، والحق يُقال؛ كلما تذكرت صداقتهما وجمال ما كان فيها من صدق وود وتصافٍ أترحم عليهما وعلى أيامهما..
كان العم حميدة جزارًا، وكان عنده غنم يتنقّل بين الحين والحين بها بين الحقول لترعى وتأكل العشب الأخضر، فالناس في ذاك الوقت كانوا يتشاركون الحقول بعد أن ينتهي حصاد ما كان فيها من محصول؛ ويسمون الحقل بعد الحصاد عندئذ (حصيدة) يقصدون ما يكون فيها من حشائش تصلح لرعي المواشي والأغنام، وكان ذلك يسمنها ويسبب زيادة إنتاج اللبن فيها.
وفي ذات مرة جاء العم حميد كعادته -وكنت شخصيا كأبي أحب هذا الرجل رحمه الله- ليرعى أغنامه في (حصيدة) بحقل قريب من بيتنا؛ فاستقبله أبي كعادته بالود والدعابة الجميلة التي كانت بينهما، وكنت ربما لا أفهم مغزى بعضها ولا أستوعبه، غير أن العم حميدة رحمه الله كان هذه المرة متجهّم الوجه حزينا!..
فقال له أبي رحمه الله؛ شايل طاجن ستك ليه يا حميدة؟ تعال نصلي العصر سوا وحاتفرج يا راجل.. وكلفني بعمل براد شاي لهما..
إمام في المرحلة الابتدائية
وبعد قليل ذهبت ببراد الشاي وقدمني أبي عليه رحمة الله فصليت بهما العصر جماعة.. والحق يقال أن أبي كان يقدمنا للصلاة به من المرحلة الابتدائية؛
حيث كان يحب أن يسمع منا ما نحفظه من سور أطول من محفوظاته هو وأبناء جيله عليهم رحمة الله؛
حيث كانوا يحفظون السور القصيرة فقط وربما بعض الآيات فقط من السور الطويلة.. وكان يشجّعنا بذلك على الحفظ والاهتمام والتعوّد على الإمامة صغارا..
وبعد الصلاة وكوب آخر من الشاي؛ قال له أبي: ياد يا حميدة! يمكن الواد ده يكون عنده إجابة لسؤالك؟ وأشار إليّ.. ثم ضحك هو وضحك عم حميدة..
فاعتدلت وتهيأت وعزمت على معرفة المشكلة كأنني أبو حنيفة النعمان أو ربيعة الرأي.. وقلت لعم حميدة: إيه السؤال؟
فقال: البنت اللي تتطلّق قبل ما تتزوج وكان معقود عليها بس (يعني مكتوب كتابها فقط) أيش لها من حقوق يا وليدي؟
لها نص المهر بس يا عم حميدة
فاعتدلت أكثر وأكثر وتهيأت للف العمامة التي لم تكن على رأسي أصلا وأخذت نفسا عميقا،
وقلت: اللي اعرفه إن لها نص المهر بس يا عم حميدة؛ لأني فاكر إن في آية في القرآن -ولم أكن أحفظ الآية بشكل صحيح وقلتها بالمعنى طبعا- بتقول الآية: (وإن طلقتم النساء من قبل أن تمسوهن فلهن نصف ما فرضتم) هكذا أو نحوه..
أما أبي رحمه الله فتهلّل وجهه وقال: ينصر دينك.. وأما عم حميدة فقال: والله يابني الله يفتح عليك؛ الشيخ فلان في أوقاف طيبة الاسم (يقصد الدلنجات) قال لي كدا فعلا..
ثم انطلقت إلى المصحف وجئتهما به بعد وقت طويل بعد أن عثرت على الآية ٢٣٧ من سورة البقرة:
(وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)..
ولم أتوقّف عن (الهبد) إذ أكملت في البيان واستكملت لعم حميدة قائلا: طبعا إلا لو عفت البنت المتطلقة أو أبوها.. والعفو أفضل يا عم حميدة..
كانت هذه هي الفتوى الأولى في حياتي التي تورّطت فيها بين أبي وصديقه الصدوق رحمهما الله.
واليوم -بعد أكثر من أربعة عقود- أقول:
رحم الله أبي؛ كم كان مربيا بالفطرة، يدفعنا إلى المكارم والدين، ويحضّنا على القرآن من طرف خفي..
ورحم الله صديقه المخلص -العم حميدة- الذي كان حريصا على معرفة حكم الله في قضيته؛ التي كانت سببًا في أن أتورّط وأنا غِرٌّ صغير في ذلك الأمر فأفتي كأنني شيخ كبير وأنا صفر لا شيء..