د. ربيع عبد الرؤوف الزواوي يكتب: جرير يمدح الفرزدق
عندما كتبت عن أدبنا العربي الأصيل منذ أيام؛ كتب إليّ بعض الفضلاء يقول: اضرب لنا أمثلة بما قصدت، وضع لنا نماذج مما تعني، وأَشِر لنا على المواضع التي تقصد.
والحقيقة إني أقصد إجمالا كل ما يدعو من أدبنا إلى مكارم الأخلاق ويردع عن قبيح الأفعال وسيّء الأخلاق، ثم هئنذا أجيبه، والأمر واسع ولا شك.
فمثلا؛ المشهور في أدبنا العربي والثابت تاريخا والمشتهر لدى معظم الناس أن جريرا والفرزدق عاشا دهرا يهجو أحدهما الآخر، وكانت بينهما معارك أدبية وشعرية؛ صالا فيها وجالا، وسطرا لنا تراثّا شعريًا رائعًا، لكن لما مات الفرزدق قبل جرير حصل غير ذلك؛ فقد كتب جرير عن الفرزدق ما ينبغي ذكره ويشتهر أمره.
فالمشهور عندنا أن يقال: جرير يهجو الفرزدق والفرزدق يهجو جريرا، ولو قلت لك أن جريرا يمدح الفرزدق. لاستغربت، لكن هذا حصل عندما مات الفرزدق؛ وكان ذلك حوالي عام ١١٠هـ في خلافة هشام بن عبد الملك.
👈والفرزدق هو أَبُو فِرَاسْ هَمَّامْ بْنْ غَالِبْ بْنْ صَعْصَعَة اَلْمُجَاشِعِي اَلتَّمِيمِي اَلْبَصَرِيَّ، ولد عام ٢٠هـ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومات عام ١١٠هـ في خلافة هشام بن عبد الملك؛ هو شاعر عربي من النبلاء الأشراف، من أهل البصرة، برز واشتهر في العصر الأموي وساد شعراء زمانه.
👈وأما جرير فهو أَبُو حَزْرَةْ جَرِيرْ بْنْ عَطِيَّة اَلْكَلْبِي اَلْيَرْبُوعِي اَلتَّمِيمِي اَلْبَصَرِيَّ؛ ولد عام ٣٣هـ، وقيل عام ٣٠هـ في خلافة عثمان رضي الله عنه، ومات عام ١١٠هـ وقيل عام ١١١هـ وقيل عام ١١٤هـ، وهو من أشهر شعراء العرب في فن الهجاء وكان بارعًا في المدح أيضًا، وكان جرير أشعر أهل عصره.
لما علم جرير بموت الفرزدق قال:
مات الفرزدقُ بعدما جدّعتُه
ليت الفرزدق كان عاش قليلاً
ثم سكت طويلاً وبكى بكاءً شديداً، فقيل له: أتبكي على رجلٍ يهجوك وتهجوه منذ ٤٠ سنة؟ فقال جرير: إليكم عنّي، فواللهِ ما تبارى رجلان وتناطح كبشان، فمات أحدهما، إلا وتبعه الآخر عن قريب.
وقد كان؛ فقد توفي جرير بعد عامٍ واحد فقط من موت الفرزدق، لكن جريرا رثى الفرزدق قبل موته بقصيدة أظهر فيها مكارم الأخلاق التي في خصمه الفرزدق؛ وكان مما قاله:
لَعَمري لقد أشجى تميماً وهدّها
على نكَباتِ الدهر موت الفرزدقِ
عشيةَ راحوا للفِراق بنعشِهِ
إلى جَدَثٍ في هُوّةِ الأرضِ مُعمَقِ
لقد غادروا في اللحدِ من كان ينتمي
إلى كُلّ نجمٍ في السماءِ مُحلِّقِ
ثَوى حامِلُ الأثقالِ عَن كلِّ مُغرَمٍ
وَدامِغُ شَيطانِ الغَشومِ السَمَلَّقِ
عِمادُ تَميمٍ كلِّها ولسانُها
وناطقُها البَذّاخُ في كلّ منطقِ
فَمَن لِذوي الأرحامِ بعدَ ابن غالبٍ
لِجارٍ وَعانٍ في السلاسلِ موثَقِ
ومَن لِيتيمٍ بعد موتِ ابن غالبٍ
وأمِّ عيالٍ ساغبينَ ودَردَقِ
ومَن يُطلِقُ الأسرى ومَن يُحقنُ الدِما
يداهُ ويَشفي صدرَ حَرّانَ مُحنَقِ
وكَم مِن دمٍ غالٍ تحمّلَ ثِقلَهُ
وكان حَمولاً في وفاءٍ ومَصدَقِ
وكَم حِصنِ جبّارٍ هُمامٍ وسوقَةٍ
إذا ما أتى أبوابَهُ لم تُغلَّقِ
تَفَتَّحُ أبواب الملوكِ لوجههِ
بغيرِ حجابٍ دونَهُ أو تمَلُّقِ
لِتَبكِ عليهِ الإنسُ والجنُّ إذ ثَوى
فتى مُضَرٍ في كلّ غربٍ ومشرِقِ
فتىً عاش يبني المجدَ تسعين حِجّةً
وكان إلى الخيراتِ والمجدِ يرتقي
فما مات حتى لم يُخَلِّف وراءهُ
بِحَيَّةِ وادٍ صَولَةٍ غيرَ مُصعَقِ