كان الماء عند العرب -لا سيما في الصحراء- هو أهم شيء؛ وكان معظم العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء؛ فلما تنزل القرآن الكريم وعدهم الله في الجنة خلاف ذلك، مما لا يعرفونه وتشتهيه أنفسهم.
وقد جاء في القرآن الكريم -فيما يتعلق بالماء في الجنة- ألفاظ ثلاثة هي من فرائد القرآن الكريم؛ وهي: {مسكوب} و {سلسبيلا} و {تسنيم} ولم يكن يعرف العربي ولا العجمي ولا نحن حتى الآن كيف يجري الماء بغير أخدود، ولا حقيقة لفظ سلسبيلا، حتى المفسرين؛ فهم فيه ما بين هل هو اسم أو صفة كما سيأتي، ولا يعرفون حقيقة انصباب الماء كالشلال من عَلٍ في أواني الجنة في لفظ {تسنيم} كما سيأتي إن شاء الله:
فأما لفظ: {مَسْكُوب}:
فإن الماء المسكوب: هو الماء الجاري المنساب؛ يُقال: سكب السائل: صبّه فهو مسكوب. واللفظ في قول الله تعالى: {وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ}.
قال البغوي رحمه الله: {وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ}: مصبوب يجري دائما في غير أخدود لا ينقطع.
وقال القرطبي رحمه الله: {وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ} أي: جار لا ينقطع، وأصل السّكب: الصب؛ يقال: سكبه سكبًا، والسّكوب: انصبابه. يقال: سكب سكوبًا، وانسكب انسكابًا، أي: وماء مصبوب يجري الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها والمياه والأنهار واطرادها.
وقال السعدي رحمه الله: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي: كثير من العيون والأنهار السارحة، والمياه المتدفّقة.
وقال ابن عاشور رحمه الله: وسَكْبُ الماء: صبّه، وأطلق هنا على جريه بقوة يشبه السَّكْب وهو ماء أنهار الجنة.
وأما لفظ: {سلسبيلا}:
فالسَّلْسَبِيل: اسم عين في الجنة يشرب منها أهلها، والسلسبيل: الشراب اللذيذ سلس المرور والانحدار في الحلق لعذوبته، الذي يشربه أهل الجنة؛ والسلسبيل والسَّلسَل والسَّلسال والسَّلِس بمعنىً. واللفظ في قول الله تعالى: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا}.
قال الطّبريّ رحمه الله: يقول تعالى ذكره: عينًا في الجنة تسمى سلسبيلًا. قيل: عني بقوله سلسبيلًا سلسة منقادًا ماؤها… وقال آخرون: عني بذلك أنها شديدة الجرية.
ثم قال: واختلف أهل العربية في معنى السّلسبيل وفي إعرابه، فقال بعض نحويي البصرة، قال بعضهم: إن سلسبيل صفة للعين بالتسلسل. وقال بعضهم: إنما أراد عينا تسمى سلسبيلا، أي: تسمى من طيبها السلسبيل، أي: توصف للناس كما تقول: الأعوجى والأرحبى والمهري من الإبل، وكما تنسب الخيل إذا وصفت إلى الخيل المعروفة المنسوبة كذلك تنسب العين إلى أنها تسمى، لأن القرآن نزل على كلام العرب، قال: وأنشدني يونس:
صفراء من نبع يسمى سهمها
من طول ما صرع الصيود الصَّيِّبُ
فرفع الصيب لأنه لم يرد أن يسمى بالصيب، إنما الصيب من صفة الاسم والسهم، وقوله: يسمى سهمها أي: يذكر سهمها. قال: وقال بعضهم: لا بل هو اسم العين، وهو معرفة، ولكنه لما كان رأس آية، وكان مفتوحا، زيدت فيه الألف، كما قال: {كانت قواريرا}. وقال بعض نحويي الكوفة: السلسبيل: نعت أراد به سلس في الحلق، فلذلك حري أن تسمى بسلاستها.
وقال آخر منهم: ذكروا أن السّلسبيل اسم للعين، وذكروا أنه صفة للماء لسلسه وعذوبته؛ قال: ونرى أنه لو كان اسما للعين لكان ترك الإجراء فيه أكثر، ولم نر أحدًا ترك إجراءها وهو جائز في العربية، لأن العرب تجري ما لا يجرى في الشعر، كما قال متمم بن نويرة:
فما وجد أظآر ثلاث روائم
رأين مخرا من حوار ومصرعا
فأجرى روائم، وهي مما لا يجرى.
والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله: {تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا} صفة للعين، وصفت بالسلاسة في الحلق، وفي حال الجري، وانقيادها لأهل الجنة يصرفونها حيث شاءوا، كما قال مجاهد وقتادة؛ وإنما عني بقوله {تُسَمَّىٰ}: توصف. وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لإجماع أهل التأويل على أن قوله: {سَلْسَبِيلًا} صفة لا اسم.
وقال البغوي رحمه الله: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا} قال قتادة: سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا، وقال مجاهد: حديدة شديدة الجرية. وقال أبو العالية ومقاتل بن حيان: سميت سلسبيلًا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان وشراب الجنة على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك. قال الزجاج: سميت سلسبيلًا لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق، ومعنى قوله: {تُسَمَّىٰ} أي: توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلًا صفة لا اسم.
وقال القرطبي رحمه الله: السلسبيل: الشراب اللذيذ، وهو فعلليل من السلالة؛ تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل بمعنى؛ أي: طيب الطعم لذيذه. وفي الصحاح: وتسلسل الماء في الحلق جرى، وسلسلته أنا: صببته فيه، وماء سلسل وسلسال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، والسلاسل بالضم مثله. وقال الزجاج: السلسبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السلاسة؛ فكأن العين سميت بصفتها. وعن مجاهد قال: سلسبيلا: حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا. ونحوه عن ابن عباس: إنها الحديدة الجري. ذكره الماوردي؛ ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسل
وقال أبو العالية ومقاتل: إنما سميت سلسبيلا؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة. وقال قتادة: سلسة منقاد ماؤها حيث شاءوا. ونحوه عن عكرمة. وقال القفال: أي: تلك عين شريفة فسل سبيلا إليها. وروي هذا عن علي رضي الله عنه. وقوله: {تُسَمَّىٰ} أي: إنها مذكورة عند الملائكة وعند الأبرار وأهل الجنة بهذا الاسم. وصرف سلسبيل؛ لأنه رأس آية؛ كقوله تعالى: {الظُّنُونَا} و{السَّبِيلَا}.
وقال ابن عاشور رحمه الله: وسلسبيل: وصف قيل مشتق من السلاسة وهي السهولة واللين، فيقال: ماء سلسل، أي عذب بارد. قيل: زيدت فيه الباء والياء أي: زيدتا في أصل الوضع على غير قياس. قال التبريزي في شرح الحماسة في قول البعيث بن حُرَيْث:
خَيالٌ لأمِّ السَّلْسبيل ودُونَها
مسيرة شهر للبريد المذبذب
قال أبو العلاء: السلسبيل: الماء السهل المَساغ. وعندي أن هذا الوصف ركب من مادتي السلاسة والسَّبَالة، يقال: سبلت السماء، إذا أمطرت، فسبيل فعيل بمعنى مفعول، رُكب من كلمتي السلاسة والسبيل لإِرادة سهولة شربه ووفرة جريه. وهذا من الاشتقاق الأكبر وليس باشتقاق تصريفي. فهذا وصف من لغة العرب عند محققي أهل اللغة.
وقال ابن الأعرابي: لم أسمع هذه اللفظة إلاّ في القرآن، فهو عنده من مبتكرات القرآن الجارية على أساليب الكلام العربي…
ومعنى {تُسَمَّى} على هذا الوجه، أنها توصف بهذا الوصف حتى صار كالعلم لها؛ كما قال تعالى: {لَيُسَمُّونَ الملائكة تسميةَ الأنثى} النجم: ٢٧؛ أي: يصفونهم بأنهم إناث، ومنه قوله تعالى: {هل تعلم له سَمِيًّا} مريم: ٦٥؛ أي: لا مثيل له. فليس المراد أنه علَم.
ومن المفسرين من جعل التسمية على ظاهرها وجعل {سلسبيلًا} علمًا على هذه العين، وهو أنسب بقوله تعالى: {تُسَمَّى} وعلى قول ابن الأعرابي والجمهور: لا إشكال في تنوين {سَلْسَبيلًا}. وأما الجواليقي: إنه أعجمي سمّي به، يكون تنوينه للمزاوجة مثل تنوين {سلاسلا} الإنسان: ٤.
وهذا الوصف ينحلّ في السمع إلى كلمتين: سَل، سَبيلا، أي: اطلُب طريقًا. وقد فسره بذلك بعض المفسرين وذكر أنه جُعل عَلَمًا لهذه العين من قبيل العلَم المنقول عن جملة مثل: تَأبط شرًا، وذَرَّى حَبًّا. وفي الكشاف أن هذا تكلّف وابتداع.
وأما لفظ: {تسنيم}:
فتسنيم: اسم عين في الجنة. وأصل الكلمة من العلو، يقال للشيء المرتفع: سنام، ومنه: سنام البعير؛ ويقال: سنم الشيء تسنيمًا: رفعه وأعلاه. واللفظ في قول الله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ}.
قال الطّبريّ رحمه الله: يقول تعالى ذكره: ومزاج هذا الرحيق من تسنيم؛ والتسنيم: التفعيل من قول القائل: سنَّمتهم العين تسنيمًا: إذا أجريتها عليهم من فوقهم، فكان معناه في هذا الموضع: ومزاجه من ماء ينـزل عليهم من فوقهم فينحدر عليهم. وقد كان مجاهد والكلبيّ يقولان في ذلك كذلك.
وقال البغوي رحمه الله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ}: شرب ينصب عليهم من علو في غرفهم ومنازلهم، وقيل: يجري في الهواء متسنما فينصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها، فإذا امتلأت أمسك. وهذا معنى قول قتادة.
وأصل الكلمة من العلو، يقال للشيء المرتفع: سنام، ومنه: سنام البعير. قال الضحاك: هو شراب اسمه تسنيم، وهو أشرف الشراب.
قال ابن مسعود وابن عباس: هو خالص للمؤمنين المقربين يشربونها صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة.
وقال القرطبي رحمه الله: {وَمِزَاجُهُ} أي: ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل؛ ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور. وروي عن عبد الله قال: {تَسْنِيمٍ} عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب.
وقال ابن عباس في قوله عز وجل: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} قال: هذا مما قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وقيل: التّسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله تعالى، فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها، فإذا امتلأت أمسك الماء، فلا تقع منه قطرة على الأرض، ولا يحتاجون إلى الاستقاء؛ قاله قتادة، ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش. وكذا في مراسيل الحسن.
وقال ابن عاشور رحمه الله: و{تَسْنِيمٍ} علم لعين في الجنة، منقول من مصدر سنَّم الشيءَ إذا جعله كهيئة السِّنام. ووجهوا هذه التسمية بأن هذه العين تصبّ على جنانهم من علوّ فكأنها سَنام. وهذا العلم عربي المادة والصِّيغة ولكنه لم يكن معروفًا عند العرب فهو مما أخبر به القرآن، ولذا قال ابن عباس لمَّا سئل عنه: هذا مما قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} السجدة: ١٧، يريد لا يعلمون الأشياء ولا أسماءها إلا ما أخبر الله به. ولغرابة ذلك احتيج إلى تبيينه بقوله: {عينًا يشرب بها المقربون} أي: حال كون التسنيم عينًا يشرب منها المقرّبون.