د. ربيع عبد الرؤوف الزواوي يكتب: مراتع الصبا
كتب ابن صديق لي من إحدى الدول العربية؛ يطلب بعض مؤلفاتي! وكتب لي قائمة بما يريد منها، ثم قال: أهم شيء كتاب مراتع الصبا يا عمو، وتكتب لي على الكتب إهداء!
فراجعت أباه في ذلك فقال: اشترط عليه أن لا يقرأها إلا بعد أن ينتهي من الثانوية العامة هذا العام فهو في أهم سنة في دراسته، وهو فعلا يعشق القراءة ولديه مكتبة كبيرة.. أوصيه يذاكر ويهتم بدراسته..
كتاب مراتع الصبا
فعلت ما اتفقنا عليه، ووصلته الكتب التي طلبها؛ فقال لي: عمو أنا عادة أقرأ قراءة حرة في أيام الجمعة والسبت، وسأقرأ كتاب مراتع الصبا فقط في هذه الأجازة! ثم لا أفتح شيء من الكتب غيره بعد ذلك. فوافق أباه على مضض، واتفقنا معه أن يذاكر دروسه حتى في الأجازة فوافق.
بعد يومين فقط أرسل لي الابن أنه انتهى من قراءة الكتاب، وقال: عجبني جدا.. وأعجبنتي سيرتك وصِباك يا عمو. فقلت وما أعجبك فيها؟! قال: النحت في الصخر ومكابدة المشاق والحياة الصعبة التي كنت فيها!
التقيت بوالده بعدها بشهرين تقريبًا فسألته عنه، فنظر إليّ وضحك ثم قال: انعدل وصار يذاكر واهتم بدراسته، فين مراتع الصبا من زمان؟! فضحكت وقلت له: تتكلم بجد أم تمزح معي؟ قال: والله من جد؛ الواد جاب ٩٩.٥ عمره ما زاد عن ٨٥ باتكلم من جد والله!
سبحان الله، هو نفس ما قاله لي فضلاء من القراء بعضهم من أهل الفضل والعلم وبعضهم من أساتذتي ومشايخي، الكل يجمع على أن الشدة وشظف العيش ومكابدة المشاق والنحت في الصخر هو كلمة السر!
فلا تنساقوا وراء رغبات أولادكم فتجيبوها لهم جميعا؛ بل عودوهم أن بعض الرغبات أو الطلبات لا يمكن توفيرها، فهذه هي الحياة الحقيقية، وأما تعويدهم على توفير كل شيء وأن كل شيء متاح ومجاب، فذلك خطير عليهم في تكوينهم وتربيتهم، وخطير عليهم مستقبلًا.
إن وجود التعب في الحياة والمشقة وشظف العيش بنسبة معقولة من أسباب التفوق وتحمل المسئولية والصبر على طلب العلم وتحصيل الدروس.
وأفضل من ذلك أن تعودوهم على العمل لتحصيل المال حتى إن لم يكونوا محتاجين له، وقد حدثني بذلك جماعة من الأثرياء المعاصرين وسمعت مثله كثيرًا من آخرين.
وأهل الصحراء والبدو قديما وحديثا يرون ذلك وينظرون لأهل الحضر ولأبناء المترفين نظرة دون أو إشفاق لهذا السبب، وقد قال بعضهم:
وكل من لم يركب الأهوالا
ولم يفارق أهله أحوالا
ولم تقطّع رجلُه النعالا
يطلب علمًا أو يصيب مالا
فأعطه المرود والمُكحالا
وزد له الأقراط والحُلالا
ودعه أن يجالس العيالا
فذاك لا يشابه الرجالا