أقلام حرة

د. سعد الكبيسي يكتب: الجولاني من الجبهة إلى الدولة

تحولات الخطاب وفق ضرورات المرحلة

وأنا أشاهد لقاء الجولاني على قناة (BBC)، هالني قوة الإجابات والردود، فقد كان الرجل متزنًا في إجاباته، دبلوماسيًا عارفًا بما يريد هذا العالم أن يسمع، ولكنّي وجدت أن هناك سؤالين يثيران القرف والاشمئزاز، وهما:

 هل ستسمحون للمرأة بأن تتعلّم؟

 هل ستسمحون للناس بشرب الخمر؟

فكان جوابه حصيفًا، ينم عن وعي وخبرة، وبكلمات كلها رزانة واتزان، تعكس حكمة عميقة: (هناك أشياء كثيرة ليس من حقي التحدث عنها لأنها مسائل قانونية، وقال إن القرار في ذلك ستتخذه لجنة مختصة بذلك).

على ما يبدو أن فترة إدلب أتاحت له لملمة أوراقه وتجهيز إجاباته، وقد وُفِّق أيما توفيق بفضل الله.

لقد برز الجولاني كإحدى الشخصيات الأكثر إثارة للجدل؛ تحوله من قائد لفصيل مسلح يتبع نهجًا جهاديًا عالميًا إلى زعيم سياسي يسعى لتأسيس دولة يعكس قدرة استثنائية على التكيف مع متغيرات الواقع.

هذا التحول لم يكن مجرد تبدل في الأدوار، بل صاحبه تغيّر جذري في الخطاب، وهو تغير فرضته ضرورات المرحلة وسياقاتها المختلفة.

ويهمني كثيرًا أن أتناول المراحل والمتغيرات التي مرّ بها خطاب أحمد الشرع عبر مسيرته، فهي تجربة، وإن كانت وليدة، إلا أنها تفتح الباب للنقاش والتحليل المعمق وتستحق النظر بعين التفحص.

المرحلة الأولى: خطاب الجهاد العالمي

عندما ظهر الجولاني لأول مرة كقائد لجبهة النصرة في سوريا، كان خطابه يحمل بصمة واضحة من أدبيات تنظيم القاعدة

الذي كان مرتبطًا به في تلك المرحلة حيث كان الخطاب يركز على الجهاد كوسيلة لتحرير سوريا من النظام الحاكم،

مع التأكيد على الارتباط بالأهداف الأممية لـ(القاعدة)، مثل محاربة النفوذ الغربي في المنطقة.

وكانت سمات ذلك الخطاب أن لغته مشحونة بعاطفة دينية عابرة للحدود، مع استدعاء مكثف للنصوص الشرعية التي تؤطر العمل الجهادي.

وهو خطاب يرفض أي مسار سياسي أو تفاوضي، باعتباره انحرافًا عن (المنهج الصحيح)،

وكان الجولاني يعتبر أن هذا الخطاب كان مناسبًا للمرحلة الأولى من الصراع.

المرحلة الثانية: فك الارتباط وتكييف الخطاب

مع تصاعد الضغوط الدولية وظهور تنظيمات أخرى مثل (داعش) التي زاحمت النصرة في الساحة الجهادية، وجد الجولاني نفسه أمام معادلة جديدة،

وأن الحفاظ على الاستمرارية يتطلب تمايزًا واضحًا عن القاعدة وعن داعش،

وهنا بدأت تحولات الخطاب عند الجولاني من خطاب الجهاد العالمي إلى (الجهاد المحلي)،

واستبدال المصطلحات الصدامية بلغة سياسية تميل إلى البراغماتية (التطبيق العملي) مع إظهار انفتاح للتعاون مع الفصائل الأخرى، وحتى القوى الإقليمية.

كان هذا التحول نقلة نوعية في طريقة تقديم نفسه كقائد يحمل رؤية وميولًا محلية.

المرحلة الثالثة: خطاب بناء الدولة

مع استقرار سيطرة هيئة تحرير الشام على أجزاء واسعة من سوريا، تغيّر خطاب الجولاني مرة أخرى،

فلم يعد خطاب القتال والصدام هو السائد، بل برز خطاب يركز على بناء الدولة والاستقرار.

وكان من مظاهر الخطاب الجديد:

١- التأكيد على الإدارة المدنية: من خلال (حكومة الإنقاذ) التي أصبحت الذراع المدنية للهيئة،

ركّز الجولاني على تقديم الخدمات وإظهار قدرة الكيان الجديد على إدارة المناطق المحررة.

٢- التوجه نحو الشرعية الشعبية:

حاول الخطاب إضفاء شرعية محلية عبر الحديث عن تمثيل مصالح الشعب السوري، والتأكيد على الاستقلالية وفق المزاج والذوق والأجواء الدمشقية.

٣- لم يعد الجولاني يتحدث عن (الخلافة) أو (الطاغوت) بنفس الزخم السابق، بل بدأ باستخدام لغة سياسية مرنة تُرضي مختلف الأطراف.

كان هذا الخطاب استجابة واقعية لضرورات المرحلة، وضمان استمرار السيطرة على الأرض، والسعي للحصول على قبول دولي أو على الأقل تحييد القوى الكبرى،

وكذلك الحفاظ على الحاضنة الشعبية عبر تحسين الخدمات وتقليل مظاهر التشدد.

الخلاصة

إن قصة تحول خطاب الجولاني من الجهاد العالمي إلى بناء كيان محلي تمثل نموذجًا فريدًا في مسيرة الحركات الإسلامية المسلحة،

لقد حرص أحمد الشرع على تقديم مبررات دينية لخطواته السياسية، مما ساعده على تجنب الانقسامات الداخلية.

إن هذه التجربة مثال على قدرة الأفراد والجماعات على تغيير خطابهم وأدواتهم وفقًا لما تفرضه ضرورات المرحلة.”

د. سعد الكبيسي

عضو الهيئات الشرعية العالمية ومستشار مراكز البحوث والدراسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights