د. سعد مصلوح يكتب: من الحقيبة (13).. على ذكر القدس الشريف
قدّرَ الله أن تكون لي سُهْمَةٌ مقدورة في لجان وضع الكتب الدراسية لمقررات اللغة العربية في وزارة التربية والمعهد الديني والجامعة العربية المفتوحة في دولة الكويت، وصرفت لذلك قدرا صالحا من الهمة والوقت ما أختبؤه عند ربي راجيا حسن المثوبة بفضله ومنِّه، وعندي في هذا المقام من التجارب والأحاديث ما أراه حقيقا بالرواية والتأمل.
بيد أن ثمة قصصا هو عندي من أحسن القصص ظل على وقع الأحداث الأخيرة يتناوش العقل ويلح على شباة القلم بالرغبة الملحاح في البوح والإفضاء
كنت على رأس ثلة من الزملاء الأكرمين، وقد وكل إلينا مهمة وضع كتاب القراءة لواحد من صفوف المرحلة الثانوية في حقبة ضاقت بها الصدور يأسا بما تكابده الأمة من الخذلان والسقوط. وجعلنا نجتهد في جمع النصوص الملائمة لإنجاز المهمة. وفي خاطرة روحية مباركة، استحضرت انتصار الأمة على يد الملك الناصر صلاح الدين – رحمه الله وأرغم أنوف شانئيه – واستنقاذ المسجد الأقصى المبارك ومسجد قبة الصخرة من قبضة الحقد الآكل بعد سقوطهما في الأسر لحقبة قاربت المئة من السنين. قلت لنفسي: ترى كيف كانت صلاة الجمعة الأولى في القدس بعد تحريرها؟ وهل حضرها السلطان الناصر؟ ومن ذا الذي رقى المنبر وخطب الخطبة؟ وماذا قال الخطيب فيها؟ وهل من طريق لاستيقاظ الهمم وابتعاث الرجاء بعد تمكن اليأس خير من تقليب صفحات التاريخ واستحياء هذا الحدث العظيم! قلت: إن يُرْجَ لذلك مصدر فلن يكون خيرا من ابن واصل؛ محمد بن سالم بن نصر الله المازني التميمي الحموي في كتابه (مفرج الكروب في أخبار بني أيوب) ولقد صدق الظن، فما إن صَفَحْتُه حتى عثرت في المجلد الثاني منه على العنوان: (ذكر أول خطبة خطب بها ببيت المقدس بعد الفتح) وتحته يقول ابن واصل:
«ولما كان يوم الجمعة التالية لجمعة الفتح، وهو الرابع من شعبان، حضر المسلمون الحرم الشريف، فغَصّ بالزحام، فإنه من تسامع الناس به من سائر الأطراف، وكَسْرِ العدو، والقصد إلى فتح بيت المقدس، توافد الناس من كل صقع، وجاءوا من كل فج؛ ليفوزوا بالزيارة ويحظوا بالمشاهدة للفتح، فاجتمع من أهل الإسلام عدد عظيم لا يقع عليهم الإحصاء. فلما أذن الظهر من يوم هذه الجمعة المباركة حضر السلطان بقبة الصخرة المقدسة وهو في غاية السرور والفرح.. وامتلأت عراص المسجد وصحونه بالخلائق، واستعبرت العيون من شدة الفرح، ووجلت القلوب. وكان جماعة من الأكابر والعلماء قد رشحوا أنفسهم للخطبة في هذا المسجد المعظم، وأخذوا لذلك أهبته وألفوا ما يخطبون به، ومنهم من عرض للسلطان يطلب ذلك، ومنهم من صرح، والسلطان ساكت لا يبدي سره. فلما حان وقت الخطبة نَصّ على القاضي محيي الدين بن زكي الدين، وقدمه لهذا الأمر الجليل، فرقى المنبر بالأهبة السوداء العباسية، وخطب خطبة بديعة بليغة هي: ثم أورد ابن واصل نص الخطبة».
أما ما كان مني بعد فهو إعداد النص لتضمينه كتاب القراءة، فكان التصرف في الخطبة بالاختصار لطولها، والاقتصار على ما يفي بالغاية من طرد اليأس واستنهاض الهمة، وتنزيل المُحال منزلة الممكن إذا صدق العزم وخلصت النية وأعدت الأمة لأعدائها ما استطاعت من أسباب القوة. وما أعظم كلمات الخطيب:
«أيها الناس؛ أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا؛ لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقر الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبا من مئة عام»
ولعله بمثل هذا يكون لنا ولأبنائنا الطلاب من التاريخ واعظ يقول لنا في أنفسنا قولا بليغا. بلى؛ ولَيَصْلُحَنّ آخر هذا الأمر إن شاء الله بما صلح به أوله. «وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون»
~~~~~~~~~~~~~~~
حاشية دالّة
قال ابن واصل في سبب عدم إقامة الصلاة بالمسجد في جمعة الفتح:
«كان المسجد الأقصى – ولا سيما محرابه – مشغولا بالخنازير والخبث … فأمر السلطان بإزالة ما أحدثوه من البنيان، وكشْف الجدار الساتر للمحراب (قلت: وكانوا – لعنهم الله – قد اتخذوا منه مستراحًا؛ أي مكانا لقضاء الحاجة)، وبتنظيفه من الأقذار والنجاسات، ونَصْبِ المنبر لإقامة الخطبة الإسلامية.. وبسط صحن المسجد بالبسط النفيسة بدل الحصير والبواري، وتعليق القناديل، وإقامة شعائر الدين»