د. سعد مصلوح يكتب: من الحقيبة (8).. عن شيخنا تمام حسان وحديث الماجستير
في مايو من عام ١٩٦٨ حُدِّدَ موعدٌ لمناقشة رسالتي التي تقدمت بها لدرجة الماجستير بإشراف من شيخيّ أيوب والدواخلي عليهما رحمات الله، وكان موضوعها «دراسة صوتية للهجات المنيا في ضوء الجغرافيا اللغوية»، كما حدد الموعد من بعدي بأسبوع واحد لمناقشة رسالة الدكتوراه لأخي وزميلي الراحل العزيز محمد فرج عيد (وكان أيوب يسميه من باب المداعبة «محمد الفَرَجْعِيدي» تيمنا بـ«الخليل بن أحمد الفراهيدي»).
ومن طريف الموافقات أن كان شيخنا تمام، وهو المشرف على رسالة تلميذه البكر محمد عيد، عضوا في لجنة الحكم على رسالتي، وكان شيخي أيوب عضوا في لجنة الحكم على رسالة عيد. فنشأ من ذلك موقف هو أشبه شيء بما ينشأ من زواج الشغار من مشكلات. لبث عيد أسبوعا كريتا وهو خائف يترقب؛ إذ كانت جميع مناقشات أيوب آية الآيات في الذكاء والصرامة والقسوة العلمية التي تبعث المهابة بل الهلع أحيانا في قلوب الطلاب.
أما أنا فقد أسلمت أمري إلى الله بعد أن كان ما توقعته من الترهيب، وكأن شيخنا (تَمَّامًا) أراد أن يخفف القبضة على عيد بتشديد القبضة عليّ. كنت هاتفته رحمه الله بأمر تحديد الموعد، فقال لي في أثناء المهاتفة نصًّا:
«توقع في المناقشة أن يكون القصف عنيفا».
قلت له: «لقد بذلت الوسع، والله المستعان».
ثم إنه عاد فقال لي قبيل الدخول إلى قاعة المناقشة بدقائق:
«هل أنت على استعداد لأخذ دُشٍّ بارد؟»
فقلت له مبتسما: «يا أستاذنا، لا أحد يكره النظافة».
وكان من خفي المكر أن أعددت للأمر عدته، واستخفيت بها حتى عن مشرفيَّ؛ مخافة أن يثنياني عنها، فأضطر إلى أن ألقي السَّلَم، وأدع جميع الكُراتِ تدخل المرمى، فكانت الخطة أن أعيد قراءة أطروحتَيْ الدكتور تمام اللتين تقدم بهما لنيل الماجستير والدكتوراه من جامعة لندن قراءة مُكْثٍ وتَلَبُّثٍ لأجعلهما معتمدي في ردي على ملاحظ الشيخ.
وذلكم الذي كان؛ فكلما وجه الشيخ ملحظا عن شروط الراوية اللغوي مثلًا أجبته بأني اعتمدت شروطه نفسها في رسالتي، وكلما انتقد تقنية من التقنيات المختبرية التي استخدمتها ذكرته باستخدامه إياها في رسالتيه إحداهما أو كلتيهما، ومضى الأمر على هذا الجر والسحب أمدا طويلا حتى إن الشيخ قد اغْتَرَقَ وحده وقتا يهدف إلى ثلاث من الساعات.
انتهى الشيخ من المناقشة، ولم يحرمني من حنان أبوته فأثني في ختامها على الجهد والعمل ثناء جميلا وتنفس كلانا الصُّعَداء. ثم انتقل الدور في المناقشة إلى أستاذي عبد الحميد الدواخلي رحمه الله فوجه إلي سؤالا، وكنت نسيت نفسي، وغفلت عن أن المناقشة مع الدكتور تمام قد انتهت، فأجبت على سؤال الأستاذ الدواخلي قائلا: لقد فعلتُ في ذلك ما فعله أستاذي الدكتور تمام في رسالته.
وهنا تدخل الدكتور تمام وقال ضاحكا بلهجة صعيدية محببة:
«أنا خلاص سكت يا حاج سعد، سيبك منى ومن رسالتي ورد على أستاذك»
فضجت القاعة بالضحك والتصفيق.
كم كانوا عظماء حتى في قسوتهم!