د. سعيد إسماعيل يكتب: من كراس تلميذ ثانوي!!
ليس هذا حديثا شخصيا عن ذات بعينها، ولا هو هروب إلى الماضي، وإنما «الأمة» هي الموضوع، والحاضر والمستقبل هو الهدف.
كان ذلك في عام 1951/1952، وكان صاحبنا في الصف الثاني الثانوي القديم، وهو ما يعادل الآن الصف الثاني من المرحلة الإعدادية.
ما زال يحتفظ حتى الآن بكراسة التعبير التي أخذ بالأمس يتصفحها، فإذا به يجد على غلافها الخارجي من أعلى، على اليمين، شعار حزب مصر الاشتراكي الذي كان أحمد حسين يتزعمه تبرز منه كلمتا: الله – الشعب، ثم شعار الحزب: الله أكبر وليحيا الشعب! فتعجب: كيف كان يمكن أن يحدث مثل هذا منذ أكثر من خمسين عاما، ثم لا يتخذ معه أحد إجراء أمنى؟ أليست الكراسة كراسة مدرسة، وهذا إعلان رسمي عليها بانتماء إلى حزب سياسي؟ ومتى؟ في هذه السن المبكرة من العمر، ولا يبرز اتهام بأن قوى سياسية مغرضة لا تريد الخير لمصر تستغل تلاميذ صغار كي تشغلهم عن مستقبلهم بالاشتغال بالسياسة؟
ومن كان وزير «المعارف» في ذلك الوقت؟ العملاق المفكر: طه حسين!! ولأنه طه حسين، لم يتربص بالتلميذ لينتقم منه، أو يطلق عليه من يقوم عنه بذلك.
وكان رئيس الحكومة هو الزعيم العظيم مصطفي النحاس الذي جاء إلى الحكم بإرادة الجماهير عن طريق انتخابات حقيقية.
وتشتد الدهشة بصاحبنا عندما يفتح صفحة أول موضوع من موضوعات التعبير.. صدق أو لا تصدق أيها القارئ أن رأس الموضوع -لاحظ أن تاريخه هو 24 من نوفمبر 1951- كان كما يلي: «في يوم ذكرى عيد الشهداء خرجت مصر في مظاهرة رائعة تحيي فيها ذكرى شهدائها الأبرار وتعلن عزيمتها الصادقة على طرد الغاصبين. صف ما شاهدت، وأثر ذلك في نفسك»!
لم تكن هناك قوات أمن مركزي تحاصر المنطقة التي قامت فيها المظاهرة القومية الكبرى.. بل كان رئيس الحكومة، مصطفي النحاس مشاركا فيها!!
ويجد صاحبنا التلميذ الصغير نفسه منهيا موضوعه بقوله: «إن مصر التي علمت الإنسانية وأضاءت العالمين. مصر التي رفعت لواء الأديان جميعا وأعلنت كلمة الله والإسلام. مصر مركز العالم وزعيمة الشرق، بعد أن طهرتها الآلام وصقلتها المحن.. لن تموت أبدا، بل ستبعث من جديد لتعيد سيرتها الأولى، منارة للعالم، وتاجا للشرق، وزعيمة للإسلام».
لا تدهش أيها القارئ، فما زالت الكراسة تحمل الكثير…
فالموضوع التالي بتاريخ 1/12/1951، رأسه: «وفد على مصر ضيف عظيم هو الدكتور مصدق رئيس وزراء إيران، فاستقبلته البلاد حكومة وشعبا استقبالا رائعا. صف هذا الاستقبال وأثره في العلاقات بين البلدين»! وكانت الدرجة التي أعطاها المدرس لصاحبنا هي (14 من 15).
آه لو ثبت أن أحدا الآن من التلاميذ كتب مادحا لأولي الأمر في إيران!!
هل كان هذا انصرافا عن التحصيل العلمي وانشغالا بأمور الكبار؟
كلا، كانت تربية قومية عملية حقيقية، تجعل من هموم الوطن مركز الاهتمام في ذهن الصغار، فيشبوا عشاقا لوطنهم، متطلعين إلى خيره ومستقبله، لا إلى الأغاني التي تخرج من حناجر كأنها نهيق حمير، بكلمات تافهة، مصحوبة برقص خليع!
وبتاريخ 26/4/1952، نجد رأس الموضوع أبياتا من شعر نصها:
مر القطيع بأرض طاب منهلها وعشبها فاستقى من مائها ورعى
فصاح راعيه: هيا يا قطيع بنا نفلت من الذئب إن الذئب قد طلعا
قال كبش له: ما الفرق بينكما كلاكما يبغى من لحمنا شبعا
دعنا له وانج إن أحببت منفردا فلست أكثر زهدا منه أو ورعا
نعم الفرار الذي أقبلت تنشده لو كان ينقذنا ومنك معا
ثم طلب المدرس: «انثر هذه الأبيات في قصة من إنشائك».
قرأ صاحبنا الأبيات فإذا بها تصور له حال الشعوب المقهورة مع قاهريها، فها هو يكتب: «ما أشبه تلك القصة بقصة الاستعمار البغيض الذي يفرض نفسه بغير حق على الشعوب الضعيفة بحجة الدفاع عنها.. يا للسخرية؟!»
هل يستطيع مدرس الآن أن يتقبل من تلميذ أن يكتب من هذا المنطلق مشيرا إلى الاحتلال الأمريكي لكل من العراق وأفغانستان؟!!
لماذا قفز هذا المعنى وفرض نفسه على ذهنه؟ لأنه لم يكن يعيش جو تفاهات تملأ الساحة. لم يكن يعيش وحوله جند مدجج بالسلاح يتربصون به وبأمثاله كي يقذفوا بهم في غيابات السجن بتهمة الخروج على الشرعية، على الرغم من كل ما كتب وقيل وصفا لهذه الفترة بأنها كانت فسادا وطغيانا، لأن الذين قالوا هذا، لم يروا ما بعد هذه الفترة، حتى يتبين لهم ان «الظلام» الذي وصفت به أصبح -قياسا لما حدث بعد ذلك- هو نور حتى ولو كان على ضوء شموع!!
ويجئ موضوع بتاريخ 27/2/1952 بعنوان (حريق القاهرة)!
قد يقول قائل إن مصر كانت ما تزال محتلة من قبل الإنجليز في منطقة قناة السويس، وهي الآن حرة مستقلة، فنقول: اليس هذا أدعى لمزيد مداخل من حرية التعبير داخل مؤسسات التعليم؟
ثم تجئ المفاجأة الأكثر مدعاة للدهشة، بل -ربما- لعدم التصديق..
فبعرض صفحتي الكراس، وفي أعلى سطرين منهما، يكتب ببنط كبير «مانشيتات» تحمل بعضا من مأثورات عدد من المفكرين، أولها كلمة لخالد محمد خالد: (إذا خفنا أن نصطلى بنار الثورة دفاعا عن بلادنا فسنصطلى غدا بنار الحرب دفاعا عن أعدائنا. وإذا آثرنا الطمأنينة على الحرية فسنفقد الطمأنينة ونفقد الحرية).
لم يوجه اتهام إلى صاحبنا بالدعوة إلى قلب نظام الحكم، ولا حتى قبض عليه واعتقل.. ظل يمارس حياته بصورة عادية.. ولم تكن مثل هذه العبارات صارفة له عن دروسه، فقد كان موقعه دائما أحد المواقع الثلاثة الأولى!
كان أقصى درجة من العقاب وقعت على صاحبنا أن عبر المدرس عن استيائه من هذه المانشيتات واصفا إياها بأنها «عبث»، لكنه لم يبلغ عنه الجهات الأمنية، ولا حتى إدارة المدرسة!
وفي الصفحة التالية عنوان كبير بأعلى الصفحة (الثورة على الطغاة من طاعة الله)، وأعلى الصفحة التالية (اعطنى الحرية أو اعطنى الموت).
ثم ينقل في أعلى صفحة أخرى «مانشيتا لجبران خليل جبران» يقول فيه (إن الشريعة العمياء والتقاليد الفاسدة تظلم الضعيف إذا سقط، أما القوى فتسامحه)، وهو نفس المعنى الذي جاء في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا للمسلمين من سوء مصير أمم سابقة إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، أما إذا كان السارق من الأغنياء، تركوه، ثم يعقب: «والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها»!!
وفي آخر صفحات الكراس، نجد المانشيت التالي: (إن طريق الواجب أقصر الطرق إلى المجد، ولكن في مصر يحدث العكس)!!
ترى، لو لم أصرح بزمن الكراسة، هل سيتصور أحد أن هذا كلام قيل منذ أكثر من 70 سنة؟