بحوث ودراسات

د. سلمان الدايه يكتب: أيّها السّاسة والقادة.. لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ (2-2)

والحقّ أنّنا في فلسطين لسنا في حال اصطلام (استئصال)، ولا أدلّ على ذلك من وجود عدد من أهلنا في شمال فلسطين في مدن وبلدات الثّمانية وأربعين والقدس لهم حقوق، السّاسة أعلم بها منّا، ووجود عدد أكبر في مدن الضّفة ومخيّماتها تحت إدارة السلطة الفلسطينية لهم حقوق، السّاسة أعلم بها منّا، وثمّة تنسيقات متنوّعة يتحصّل عليها شرائح من أهلنا في القطاع والضّفة من أهل الحرب، أوسعها التّنسيق العمّاليّ لعشرات الألوف من أهل الضّفة والقطاع يعملون في الميادين المدنيّة، وقد يبيتون أيّاماً وأسابيع في محالّ عملهم، ثمّ يعودون، ومنها التّنسيق الطّبّيّ الّذي يمنح المريض على ضوئه العلاج في بعض مشافي عدوّهم، ومنها التّنسيق التّجاريّ الّذي يسمح لبعض التّجار أن يشهدوا منافعهم في أسواق عدوّهم، ومنها التّنسيق بغرض الصّلاة في المسجد الأقصى، وهذه حقائق يعلمها كلّ واحد من أهل فلسطين، والسّاسة أعلم بتفاصيلها منّا، كلّ ذلك يشي بأنّنا لسنا مع عدوّنا في حال اصطلام واستئصال، والتّكييف الحقّ لواقعنا في القطاع والضّفة أنّنا في حال حصار، فيسعنا في واقعنا هذا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم في حصاره من الأحزاب -قريش وغطفان وقريظة-، وقد نأى بنفسه والجند عن البيوت والذّرّية؛ ليكونوا بأمن وأمان من ضراب العدوّ، ثمّ حفر وأصحابه الخندق؛ استدفاعاً لشرّ عدوّهم، وحاول دفع فريق منهم (وهم غطفان) بمال، ومنع أصحابه من إذعار الأحزاب بأيّ سلوك استفزازيّ يستظهر حميّتهم وحماقتهم وإصرارهم على حربه وأصحابه، وقد أمر الله عزّ وجلّ عباده بالتّأسّي بنبيّه صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله وتقريراته.

إذا تبيّن هذا؛ علم أنّ إذعار عدوّنا الجبّار علينا في السّابع من أكتوبر كان مخالفاً لهدي نبيّنا صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: شرع الجهاد للشّهادة؛

فإنّها كرامة وأيّ كرامة؛ ينبيك عن ذلك أصحاب الأخدود، ولو لم تكن كرامةً؛ لوسع الغلام الفرار وملازمة الدّعوة ولو سرّاً حتّى يشتدّ عوده، ولما أقرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم انغماس بعض أصحابه في جموع الكفر حال الحرب؟

فالجواب: الشّهادة كرامة لا شكّ،

وعلى العاقل أن يتحرّاها في غبطة، ودليل هذا ظاهر من أحكام الجهاد والإعداد والتّحرّف والتّحيّز والفرار حال الضّعف، والدّعاء بالنّصر والعافية، وخيريّة من طال عمره وحسن عمله، وقد سئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث عبد اللّه بن بسر رضي الله عنه، أنّ أعرابيًّا قال: يا رسول اللّه من خير النّاس؟ قال: (مَنْ ‌طَالَ ‌عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ)، على أنّ هذا ما يراعيه رجال المقاومة في قطاعنا من استتارهم في الأنفاق والبيوت والمراكز والمؤسّسات؛ لتطول نكايتهم في عدوّهم؛ إذ لو كانت الشّهادة مقصودةً لذاتها في غير غبطة؛ لما ساغ منهم ذلك، على أنّ حادثة أصحاب الأخدود لم تكن في أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم؛ بل كانت في أمّة غابرة، وهي من شرع من قبلنا، وقد ذكرها اللّه في سورة البروج موعظةً للمؤمنين، وحدّث النّبيّ صلى الله عليه وسلم بها زاداً يحمل أصحابه والمؤمنين من بعدهم على الصّبر على البلاء والثّبات على الدّين ولو أفضى بالمبتلى المسترشد إلى الهلاك، وقد عدّها بعض أهل العلم -منهم ابن العربيّ المالكيّ رحمه الله- منسوخةً في شريعتنا، وقال: “وهذا منسوخ عندنا حسب ما تقرّر في سورة النّحل”.

ولعلّ الّذي دعاه إلى القول بالنّسخ: عدم جواز فعل الغلام في شريعتنا أنّه دلّ على الرّاهب فقتل، وأرشد الملك إلى كيفيّة قتل نفسه، كما لا يجوز أن يلقي المسلم بنفسه في النّار المحرقة، فضلًا عن أن يلقي صغيره فيها كما فعلت المرأة بنفسها وولدها،

وقد اعتذر أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في المفهم لهم من وجهين:

أحدهما: أنّ الغلام غير مكلّف؛ لأنّه لم يبلغ الحلم، ولو سلّمنا أنّه مكلّف؛ لكان العذر عن ذلك أنّه لم يعلم أنّ الرّاهب يقتل، فلا يلزم من دلالته عليه قتله.

والثّاني: عن معونته على قتل نفسه: أنّه لمّا غلب على ظنّه أنّه مقتول ولا بدّ، أو علم بما جعل اللّه في قلبه، أرشدهم إلى طريق يظهر اللّه بها كرامته وصحّة الدّين الّذي كانا عليه، ليسلم النّاس، وليدينوا دين الحقّ عند مشاهدة ذلك، كما كان. وقد أسلم عثمان رضي الله عنه نفسه عند علمه بأنّه يقتل-ولا بدّ- بما أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم…».

والاستدلال بصنيع الغلام بعيد عن الوجاهة؛ لأنّ الغلام كان مستسرًّا أمر إسلامه وإسلام الرّاهب، ولو كان بوسعه الفرار بعدما كشف أمره؛ لفعل، فقد فرّ حين وسعه ذلك من هو خير منه وأقوى، أعني به كليم الله موسى -عليه الصّلاة والسّلام- وقد أخبر الله عنه بقوله: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ [الشعراء: 21]، وكان مثله من النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، ولوكان الثّبات واجباً والشّهادة تطلب لذاتها من غير نكاية أو لمجرّد المثوبة الأخرويّة؛ لما كان منهم ذلك؛ لأنّهم لم يقولوا ولم يعملوا إلّا بوحي، وإن اجتهدوا؛ لم يقرّوا على خطأ، لكنّ اللّه أراد بالغلام غير ذلك رغم استتاره وكان ما كان، فلمّا أيقن أنّ الملك لا بدّ قاتله؛ أراد أن يجعل من شهادته نصرةً للدّين بإنقاذ المهج من النّار، فللّه درّه من فتًى أعقل وأحكم من كثير من العلماء الّذين تسبّبوا للنّاس بالرّدة عن الدّين.

وأكثر المفسّرين لم يعرضوا إلى الأحكام؛ بل إلى المغزى من الحادثة وهو تصبير المؤمنين على ما يلقون من اللّأواء، والحكم في شريعتنا بشأن الغلام والرّاهب ومن كان على مثل حالهم: التّخيير بين العزيمة الّتي تعني الثّبات على الدّين والإعلان به حتّى الفوت، والرّخصة الّتي تعني استدفاع الهلاك عن النّفس بإعلان الكفر والقلب مطمئنّ بالإيمان، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم الْمَوْقِفَانِ؛ فَزَيْدُ بنُ الدِّثِنَّةِ وَخُبَيْبُ بنُ عَدِيٍّ رضي الله عنهما أَخَذَا بِالْعَزِيمَةِ حَتَّى الشَّهَادَةِ، وَعَمَّارٌ رضي الله عنه أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: (كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟) قَالَ: ‌مُطْمَئِنٌّ ‌بِالْإِيمَانِ قَالَ: (إِنْ عَادُوا فَعُدْ)، وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ ‌مَنْ ‌شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106].

وأمّا عن إقرار النّبيّ صلى الله عليه وسلم انغماس بعض أصحابه في جموع أهل الكفر عند احتدام القتال؛ فهذا يؤكّد ما قلنا إنّ الشّهادة تطلب في غبطة ونكاية، على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينغمس، ولا العشرة المبشّرون، ولا فقهاء الصّحابة وعلماؤهم، ما يرشد إلى أنّ توقّي ضراب العدوّ وطول النّكاية بهم إذا كان الجهاد على هدىً هو الكمال.

فإن قيل: فهل هذا وقت مثل هذا المقال؟!

فالجواب: إذا كنتم تشاهدون الدّمار والتّقتيل والتّشويه والتّشريد والتّجويع في كلّ ساعة، وعلمتم أنّ أشهر أسبابها رجم الصّاروخ على تخوم القطاع وهو محدود التّأثير، لكنّه يتسبّب بما تعلمون، والأمر يتكرّر منذ شهور وتداعياته المرّة لا تخفى على أحد، وإنّ السّاسة يعلمون تفاصيلها، فمتى يكون إبداء الحجّة والإعذار إلى اللّه عز وجل رجاء المراجعة ورحمة العامّة؟!

على أنّ العالم يجب أن يتجرّد عن الهوى وحظّ النّفس والمجاملة، ويتوخّى في النّظر والفتوى والمقالة التّوفيق بين المصالح ما أمكن؛ فإذا تعذّر عليه ذلك راعى مصلحة الأعمّ والأكثر على مصلحة الأخصّ والأقلّ، ولا يحسن منه تأخير بيان العوار إذا قام الدّاعي، وتعزيز ثقة النّاس بدينهم الّتي هزّها في قلوب كثير من النّاس سلوك المقاومة، وقد حسب الدّهماء أنّ الدّين يأمر بهذه الفظائع، الأمر الّذي دفع كثيراً منهم إلى ردّة المعتقد والسّلوك، على أنّ مصلحة الكلّ مقدّمة على مصلحة الجزء، وأنّ مصلحة الأعمّ مقدّمة على مصلحة الأخصّ، بهذا نطقت أدلّة السّمع وقواعد الفقه، فمن الأدلّة حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ)، وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (‌مَنِ ‌احْتَكَرَ ‌فَهُوَ ‌خَاطِئٌ).

وحكمة النّهي في الحديثين: أنّ تلك المعاملات تؤذن بتقديم مصلحة الخصوص على العموم، أو مصلحة الأفراد على مصلحة الجماعة؛ فنهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وأمّا القواعد؛ فمنها: “المصلحة الكلّيّة مقدّمة على المصلحة الجزئيّة”، ومنها: “لا ترجّح مصالح خاصّة على مصالح عامّة”.

فإن قيل: ما السّبيل إلى الخروج من هذه الشّدائد برأيك؟

السّبيل من وجهين:

أحدهما: المسارعة إلى تقديم حكومة إنقاذ لهذه المآسي والجراح، مؤلّفة من رجالات لهم حضور ورسوخ في ميادين الدّولة، يتّسم رجالاتها بالمهنيّة والقبول عند المؤسّسات العربيّة والإسلاميّة والدّوليّة، كي يتعاطى الكلّ معها بإيجابيّة، ويلزم اصطفاف الشّعب بجميع مكوّناته خلفها، وإنّ هذا الصّنيع الّذي تدعو إليه الضّرورة له أصل في الشّرع، فقد مضى هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تنصيب القادة والسّفراء بحسب الكفاءة مع صرف النّظر عن التّفاوت في الصّلاح إذا افترض، فقد أمّر عمرو بن العاص على جيش فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وفعل ذلك مع أسامة بن زيد رضي الله عنه، ومعلوم أنّ أبا بكر وعمر والمبشّرين خير من عمرو وأسامة رضي الله عنهم صلاحاً لا خبرةً في المهمّة الّتي أسندت إليهما، ويتجلّى هذا لمّا انتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه رسولاً إلى قريش يوم الحديبية، فاعتذر وقدّم على نفسه عثمان بن عفّان رضي الله عنه؛ لأنّه أنجح للمهمّة؛ فأقرّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومعلوم بإجماع الأمّة أنّ عمر خير من عثمان رضي الله عنهما؛ فعن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «دعا عمر ليبعثه إلى مكّة -يوم الحديبية-، فقال: يا رسول الله، إنّي أخاف ‌قريشًا ‌على ‌نفسي، وليس بها من بني عديّ أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها، وغلظتي عليها، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ منّي عثمان بن عفّان. قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه إلى قريش».

الثّاني: التّبصّر بالجهاد أنّه ليس مقصوراً على دفع الحربيّ بالشّوكة والسّلاح فحسب، فهو وإن كان عبادةً محكمةً لم يرد عليه ناسخ، وعالي الرّتبة ما كان على الهدى، وراعى أهله شروطه الّتي يرجى بها تحقيق مقاصده، فرغم علوّ رتبته، وأنّه ذروة سنام الإسلام، لكنّ للنّفس مطمعاً فيه بدليل ما أخبرت به دليل الوحي أنّ من الأنفس من تجاهد للمغنم، ومنها من تجاهد للشّهرة وعلوّ الذّكر، ومنها من تجاهد للرّياء، وبلوغ المأرب السفل؛ قال تعالى: ﴿‌مِنْكُمْ ‌مَنْ ‌يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران: 152].

 وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الرَّجُلُ: يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَنْ ‌قَاتَلَ ‌لِتَكُونَ ‌كَلِمَةُ ‌اللَّهِ هِيَ العُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

وثمّة جهاد أعلى منه وأكبر، وهو جهاد النّفس وترويضها على مراد الله عزّ وجلّ، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم حتّى تألف أوامر الوحيّ، وتنفر من نواهيه، وهذا لاشكّ أثقل على النّفس، ولذا نعته الله عزّ وجلّ في كتابه بـ (الكبير)؛ فقال سبحانه:

﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا، فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 51]،

فِإِنَّ هَاءَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {بِهِ} عَائِدٌ عَلَى عِلْمِ الْوَحْيِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.

وبهذا الجهاد تزكو النّفس وتعلو إلى مقام الإحسان، وتنال معيّة الرّحمن؛ قال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]،

الآية من سورة العنكبوت وهي مكيّة، ومعلوم أنّ الجهاد لم يؤذن به إلّا في السّنة الثّانية من الهجرة إلى المدينة، فدلّ هذا على أنّ الجهاد في الآية مصروف إلى جهاد النّفس، وقد أفصحت الآية أنّه كبير، ومؤيّد بمعيّة الله، وأنّ من أتقنه؛ كان ضمن قوافل المحسنين.

وَمَضَى عَلَى هَذَا فَهْمُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْجِهَادِ: “ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَجَاهِدْهَا، وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَاغْزُهَا”.

وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: “أوّل ما تنكرون من جهادكم أنفسكم”.

وجهاد النّفس يكون على أربع مراتب:

الأولى: أن يجاهدها على تعلّم الهدى ودين الحقّ الّذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلّا به، ومتى فاتها علمه؛ شقيت في الدّارين.

الثّانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلّا فمجرّد العلم بلا عمل إن لم يضرّها؛ لم ينفعها.

الثّالثة: أن يجاهدها على الدّعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلّا كان من الّذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبيّنات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرّابعة: أن يجاهدها على الصّبر على مشاقّ الدّعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمّل ذلك كلّه للّه.

وتتجلّى فوقيّة جهاد النّفس على جهاد العدوّ؛ أنّ جهاد العدوّ خادم لجهاد النّفس، يدلّك على هذا غرض جهاد العدوّ وهدفه، وهو دفع شروره عن مصالح النّفس في دينها، وذاتها، وعرضها، ونسلها، ومالها، وهذا الغرض هو موضوع جهاد النّفس عينه؛ فكان الأوّل وسيلةً، والثّاني غايةً، والغاية أشرف من الوسيلة اتّفاقًا.

قلت هذا؛ لأستظهر عند الإخوة السّاسة والقادة والأجناد قناعةً في عدم الاصطدام مع القدر الشّرعيّ الدّالّ على أنّ الأحكام مناطة بالقدرة المنجحة لمقاصد تلكم الأحكام.

فإذا كان أهل القطاع في حصار، وعدم إمداد وكانوا في حرج اقتصاديّ، وتصدّع اجتماعيّ، وتناقضات في الثّقافات والأفكار، والأمزجة والأهواء تمنعهم من تحقيق أهداف جهاد الشّوكة ومقاصده؛ لزمهم توجيه الطّاقات نحو تحقيق الجهاد الأكبر الّذي تزكو به الأنفس، وتسمو به الأرواح، ويعلو به المقام، وتنال به معيّة اللّه وولايته، وتحظى بالنّصرة الإلهيّة ممّن يكيد لها ويتجرّأ عليها؛ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يقول اللّه تعالى: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ).

بهذا البيان يتضح أنّ دفع العدوّ ما شرع إلّا لإزالة العوائق عن طريق مصالح النّفس المدرك بجهادها؛ لتتمكّن من تحقيق مصالحها على كمال.

وفي ختام هذه المقالة؛

أذكّر السّاسة والقادة بأنّ الأسرى في شريعة الله معقود أمرهم بمصلحة أهل الإسلام لا بهدمها، ولقد وظّفتموها برسوخكم الفقهيّ والسّياسيّ في أسر آلاف الغزّيّين وقتل عشرات الألوف منهم، وتدمير مئات الألوف من بيوتهم، واستئصال مقوّمات حياتهم، وتجريعهم الذّلّ رجالاً ونساءً، وشيباً وشباباً لسنوات لا يعلم منتهاها إلّا الله.

 وأقول للسّادة العلماء الّذين هم في خارج القطاع سيّما الّذين يتّخذون من تركيّا مقرّاً لهم: كونوا أكثر واقعيّةً، وكفّوا عن إذعار السّاسة والقادة وأفتوهم بوقف هذه المحرقة الّتي تسمّونها جهاداً.

أما علمتم أنّ القلوب قد زاغت، والعقول قد طاشت من هول المصاب!!!

هل بلغكم أنّ سبّ الله يسمع في الأسواق والطّرقات؟!!

هل بلغكم أنّ عدداً ليس بالقليل من الأجنّة في بطون الماجدات بفعل العلوج الكفّار، وقد حارت عقول العلماء في حكم إجهاض تلك الأجنّة؟!!

هل بلغكم فجور الصّيارفة والتّجار، وأصحاب العقارات الّذين ضاعفوا الأجور على المستأجرين المعدومين؟!!

هل بلغكم الفوضى الّتي عصفت بأهل القطاع، وخاض فيها الأحزاب المتنفّذة بغصب قوافل المعونات، وطرود الغذاء، وبيعها في الأسواق بأثمان لا تطاق، وإطلاق الرّصاص على ركب المخالف لهم، المخلّ ببعض الآداب؟!!

هل بلغكم النّزوح المحفوف بالأوجاع والآهات والسّبّ واللّعنات بسبب إطلاق الصّاروخ الّذي يأتي على عشرات العلوج والمئات؟!!

أما حرّك ضمائركم حال النّازحين الرّاقدين والنّائمين والآكلين، والشّاربين، والمتخلّين في الطّرقات!!!

هل بلغكم أنّ حوادث الطّلاق بسبب أزمات الأنفس قد بلغ الآلاف؟!!

هل بلغكم الشّجارات العائليّة بسلاح البارود الّذي يفضي إلى هلاك في الأنفس، وإتلاف في الممتلكات؟!!

هل بلغكم أنّ كثيراً من النّاس قد اختلّ عقله، وأنّ الأكثر لم يخطئه الاكتئاب؟!!

أمام هذه الفظائع وغيرها، وحصار قطاع غزّة من كلّ الجهات، وتدمير كلّ مقوّمات الحياة مع ما يضاف إليها من إزهاق الأنفس وتشويه الأبدان وذهاب البيوت والأموال، ما زلتم على وهم الانتصار على عدوّ جبّار لم يفرّق بين جنين ورضيع وسقيم وعجوز وكبير وحامل سلاح، مدعوم من جلّ العالم المتنفّذ، ومتحكّم بكلّ مقوّمات حياتنا، وعزلة ضربت علينا بسبب تحالف أحزابنا المقاومة مع ملالي إيران الّذين مردوا على الغدر والإجرام؛ فهل تنتظرون أن تسقط السّماء علينا سلاحاً وقوتاً؟!

وهل كان هذا للنّبيّ حتى يكون لأمثالنا؟! فاتّقوا الله في شعب بات كلّه في حال احتضار.

فمتى ستطرحون القناعة الخاطئة بشأن جهاد الدّفع، وأنّه معزول عن مقصده على كلّ حال، كما أعربتم في ردودكم على مقالتي (أيّها السّاسة.. أوقفوا هذا المدّ)، وأنّ الجهاد ما شرع إلّا للشّهادة، وقد كنت كتبت على اعتراضاتكم ردوداً، أخّرتها لمصلحة بدت لي، وأرى من الحكمة نشرها؛ لأعذر لبني قومي، ورجاء أن ينفع الله بها، فتثير رغبةً صادقةً عند ذوي الشّأن نحو الخروج من هذه المحرقة الّتي يشتدّ لهيبها يوماً بعد يوم.

واللّه أسأل الهدى والرّشاد، وكشف الضّرّ عن بلدنا وبلاد المسلمين؛ آمين.

والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. سلمان الدايه

أستاذ الفقه وأصوله.. عميد كلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية بغزة سابقاً

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى