أقلام حرة

د. صالح النعامي يكتب: المدارس الحريدية في الكيان الصهيوني

تنطلق مناهج التعليم في المدارس الدينية الحريدية في الكيان الصهيوني، وتحديداً كتب مادة التاريخ، في تفسير الأحداث من منطلق ديني يُلغي العوامل الموضوعية والمادية التي أثّرت في تبلور هذه الأحداث.

هذا الاستنتاج كان أهم ما توصل إليه بحث حول الاتجاهات الرئيسية لمنهج التاريخ في المدارس الحريدية، أعدّه الباحث حان شليطا، ونشره موقع «شومريم» الإسرائيلي.

ويوضح شليطا أن «المنهج يستعرض الوقائع التاريخية البعيدة والقريبة من منطلق أنها تحصل بتدبير سماوي بلا أي دور للبشر.

على سبيل المثال، تفسر مادة التاريخ في المدارس الحريدية الانتصارات التي حققتها إسرائيل في حروبها مع الدول العربية بأنها نتاج معجزات وخوارق إلهية، وبين المعجزات التي تحدث عنها أحد كتب التاريخ، إصابة خمس دبابات لأعداء إسرائيل من دون أن تتعرض لقصف خلال حرب 1948».

ويشير شليطا إلى أن «كتب التاريخ المعتمدة في المدارس الحريدية تعتبر أن انتشار ظاهرة الزواج المدني في إسرائيل تسببت في اندلاع انتفاضة الأقصى في أكتوبر/ تشرين الأول 2000، والتي قتل خلالها أكثر من ألف جندي ومستوطن إسرائيلي وجرح آلاف.

هذه الكتب تنظر إلى الانتفاضة باعتبارها عقاباً إلهياً على ممارسة الزواج المدني».

ودرس البحث الاتجاهات التي تتحكم بمضمون كتب التاريخ في المدارس الحريدية من خلال كتابين تعتمدهما المدارس الثانوية، هما «فصول في تاريخ إسرائيل الحديث» الذي ألفه الحاخام مناحيم هكوهين أوستري، و«تاريخ الأجيال المعاصرة» للحاخام يوكتئيل فريدنير.

ويصف الكتابان الأشخاص العلمانيين بأنهم «أصل الشر»، والمسؤولون عن مظاهر تدهور القيم التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي، إضافة إلى أن «اليهود الشرقيين انحدروا إلى الإجرام المنظم بتأثير من العلمانيين الذين أبعدوهم عن الدين».

ويطعن الكتابان في النتائج التي حققتها الحركة الصهيونية، ويصفانها بأنها “نتائج غير مباركة، لأن القيادة العلمانية لهذه الحركة لم تسر على طريق التوراة”، فضلاً عن مهاجمتهما المؤسسات الرسمية، وتحديداً تلك المسئولة عن استيعاب المهاجرين اليهود، وعن التعليم، ويصفانها بأنها «بلا قيم».

ورغم المكاسب الهائلة التي حققها التيار الحريدي بعد تعاظم ثقل الأحزاب والحركات التي تمثله في الحكومات التي تعاقبت في العقود الأربعة الأخيرة، يقدم الكتابان التيار كضحية للتمييز وانعدام المساواة، في حين يشددان على أن الحريديم هم الفئة الأكثر التزاماً بالقيم. وهما يتجاهلان خصوصاً «وثيقة الاستقلال» التي شكلت ركيزة إعلان قيام إسرائيل، وذلك لأن قيادة الحركة الصهيونية العلمانية تولت صياغتها.

ويكشف شليطا في البحث الذي أعدّه أن «الكتابين خلوَا تماماً من أي إشارة إلى مبادئ المساواة في الحقوق بين مواطني الدولة استناداً إلى الدين والعرق والجنس، وتجاهلا حرية العبادة والتعبير والتعليم والثقافة، في حين خصصا مساحات كبيرة للدفاع عن إعفاء طلاب المدارس الدينية الحريدية من الخدمة العسكرية، استناداً إلى مبررات دينية وفقهية».

ويوضح أن «كتاب (تاريخ الأجيال المعاصرة) يعارض مبدأ تحقيق المساواة بين المواطنين لأنه يتناقض مع كون إسرائيل دولة يهودية، ويوجه انتقادات إلى رئيس الوزراء السابق إيهود باراك لأنه عمل على تحقيق المساواة.

كما يعتبر هذا الكتاب أن اندلاع انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 2000 في أوساط فلسطينيي الداخل ضد إسرائيل أثناء حكم باراك هو بمثابة عقوبة إلهية على محاولته تحقيق تلك المساواة، فضلاً عن وصفه المنظمات العلمانية التي تعمل ضد مظاهر الإكراه الديني بأنها معادية لإسرائيل».

ويتحدث شليطا عن أن «كتاب (فصول في تاريخ إسرائيل الحديث) يعارض ما يعتبره مظاهر تؤكد فشل التعليم العلماني بسبب عدم تجانسه مع قيم الأمة، ويحمّل هذا التعليم مسؤولية عدم تشرّب المهاجرين اليهود الجدد قيم اليهودية، لأن المؤسسات التي يهيمن عليها العلمانيون تشرف عليهم». ويشير إلى أن الكتابين تبنيا موقفاً عنصرياً فجاً من العرب الذين جرى تصويرهم بأنهم «أصل الإرهاب، ومحركو الحروب، ما يكرّس اتجاهات رفض التسوية السلمية للصراع».

ويقتبس البحث من الأكاديمية مالي إيزنبرغ، المحاضرة في قسم التاريخ بجامعة «بارإيلان»، ثاني أكبر الجامعات الإسرائيلية، والتي تقول إن «مناهج التعليم في المدارس الحريدية تخلو تماماً من النظرة النقدية إزاء أحداث التاريخ، والرؤى الدينية والاجتماعية السائدة، وذلك هدفه عدم المساس بتماسك الهوية الحريدية لدى الطلاب».

وترى إيزنبرغ أن «مناهج التعليم، وتحديداً كتب تدريس التاريخ في المدارس الحريدية، تهدف أساساً إلى تعزيز المضامين الدينية لدى النشء الحريدي من دون أن تراعي الحقائق التاريخية والموضوعية»، وتخلص إلى أن «اتجاهات كتب التاريخ في المدارس الحريدية لا يمكن أن تساهم في بناء ذاكرة مشتركة لليهود في إسرائيل».

بدوره، يعتبر أستاذ مادة التاريخ في جامعة «بارإيلان» كيمي كفلان أن «مناهج التعليم الحريدية تفبرك التاريخ وفق توجهات التيار، وتتجاهل أحداثاً مهمة من أجل التركيز على أخرى لتحقيق هذا الهدف. تفسير أحداث التاريخ باعتبارها أقداراً إلهية وصل إلى حد اعتبار صعود النازية في ألمانيا خلال ثلاثينيات القرن الماضي بمثابة إرادة ربانية».

ويقول المحاضر في جامعة حيفا تسفرير غولدبرغ إن «كتب التدريس الحريدية، وتحديداً كتب التاريخ، معادية للعلمانيين، لكن عداءها للعرب أكبر وأكثر شراسة. إنها تنتج تاريخاً بديلاً توجهه منظومة القيم التي يؤمن بها هذا التيار، ولا تلتزم بالأمانة التاريخية من أجل إفساح المجال أمام تغليب المنطلقات الأيديولوجية».

ولا يوجد ما يدفع للاعتقاد بأنه سيطرأ مستقبلاً أي تغيير على تلك المناهج بسبب الاستقلال الذاتي الذي يحوزه الحريديم في تحديد مضامين المناهج، على الرغم من أن الحكومة تمولها بالكامل، وإلزام مدارس الحريديم بتدريس كتب وزارة التعليم مستحيل لأن المرجعيات الدينية الحاخامية هي التي تقرر تلك المناهج. وعززت الأحزاب الحريدية نفوذها داخل وزارة التعليم من خلال اشتراط تعيين وزير مفوض ينتمي إليها للإشراف على التعليم الحريدي، وهكذا كلف حاييم بيطون من حركة «شاس» الحريدية بتلك المسؤولية داخل وزارة التعليم.

د. صالح النعامي

صحفي فلسطيني، باحث في الشأن الإسرائيلي، دكتوراة في العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى