مقدمة:
لطالما استغلّ الغرب الاستعماري-الإمبريالي قضية الأقليات كأداة استراتيجية لتفجير المنطقة العربية والشرق الأوسط، لا حبًّا في الحقوق ولا دفاعًا عن التنوع، بل لتقسيم المجتمعات وإضعاف الدول الوطنية. فمنذ اتفاقيات سايكس-بيكو، جرى توظيف المكونات الطائفية والعرقية كأذرع للنفوذ الأجنبي، تُثار عند الحاجة وتُستخدم كذرائع للتدخل. تحوّلت الأقليات إلى أوراق ضغط، تُغذّى بالشعور بالخوف والتهميش، لتبرير مشاريع الهيمنة والسيطرة. وهكذا، غابت المقاربات الوطنية الجامعة، لصالح خطابات الحماية الزائفة التي رسّخت الانقسام بدلًا من الوحدة
الإشكالية:
الإشكالية الرئيسية التي يطرحها واقع الدروز اليوم تتعلق بتعدد ولاءاتهم بين ثلاثة كيانات: سوريا، ولبنان، و”إسرائيل”، وتباين مواقفهم من النظام، والثورة، والاحتلال، في ظل صراع نفوذ إقليمي ودولي لا يرحم الهويات الصغيرة. وتتفرع من هذه الإشكالية أسئلة فرعية عن جذور الطائفة، وتطورها، وأدوارها السياسية، وموقفها من الدولة والسلطة، وصولًا إلى حركة الشيخ حكمت الهجري التي مثّلت منعطفًا حادًّا في تاريخ دروز سوريا.
النشأة والخصوصية
الطائفة الدرزية ظهرت في مطلع القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي في ظل الخلافة الفاطمية، من رحم الدعوة الإسماعيلية الباطنية. ورغم نسبتها رسميًا إلى الحاكم بأمر الله، إلا أن الحاكم نفسه لم يُعلن هذه الدعوة ولا أقرّ بها، ما جعل العقيدة الدرزية تُعدُّ فرقة سرية مغلقة، ترفض الاستقطاب والتكاثر من خارجها، وتحصر الدين في “الموحدين” الذين يعرفون الحقائق الباطنية.
وقد أسهم الطابع الغنوصي السري للعقيدة الدرزية في جعل الطائفة تلتف على ذاتها، وتتحصّن في الجبال والقرى، خصوصًا في جنوب الشام (جبل العرب) وجبل لبنان، وتطوّرت مؤسساتها الداخلية بتوازن دقيق بين رجال الدين (العقال) والعامة (الجهال)، وبين الزعامة الدينية والقيادات المحلية.
التوجهات والأدوار السياسية
رغم تحفظها العقائدي، لم تكن الطائفة الدرزية خارج مسار الأحداث الكبرى في المنطقة. فقد شارك الدروز في مقاومة الاحتلال العثماني والفرنسي، وكان سلطان باشا الأطرش، الزعيم الدرزي الشهير، أحد رموز الثورة السورية الكبرى سنة 1925. كما كان للدروز وجود فاعل في الجيش السوري في مراحل ما بعد الاستقلال.
أما في لبنان، فقد لعب الزعيم كمال جنبلاط دورًا كبيرًا في الحياة السياسية، وأسس الحزب التقدمي الاشتراكي، قبل أن يُغتال في بداية الحرب الأهلية، ليخلفه نجله وليد جنبلاط، الذي جمع بين الواقعية السياسية والمناورة الطائفية.
وفي “إسرائيل”، ظل دروز فلسطين حالة فريدة، إذ سُمح لهم بالخدمة في الجيش الإسرائيلي، وهو أمر أثار انقسامات داخل الطائفة، بين مؤيد للاندماج، ورافض لما يراه تطبيعًا مع العدو. وقد شكّل الشيخ موفق طريف واجهة الزعامة الروحية في الأراضي المحتلة، وهو ما انعكس في تصريحاته الأخيرة التي طالب فيها بحماية دروز سوريا، مما اعتُبر تدخّلًا سياسيًا تحت غطاء ديني.
التباين في المواقف من الأزمة السورية
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، اتخذ الدروز في جبل العرب موقفًا حذرًا، تَميّز بالحياد أو اللاموقف، خوفًا من الانزلاق إلى صراع سني–علوي، وحفاظًا على سلامة مناطقهم. إلا أن هذا الموقف لم يكن واحدًا، فقد ظهرت أصوات درزية سورية، دينية ومدنية، تؤكد انتماءها للوطن، وتشارك في حراكه الشعبي، معبرة عن رفضها للديكتاتورية.
في المقابل، حذّر وليد جنبلاط من «جرّ الدروز إلى حرب لا تنتهي مع المسلمين»، في إشارة إلى أن بقاء الطائفة خارج خطوط النار هو أولوية استراتيجية. أما المراجع العسكرية الدرزية في الداخل السوري، فقد أبدت موقفًا داعمًا للدولة في البداية، لكن هذا الموقف بدأ بالتغير لاحقًا.
انتفاضة السويداء وقيادة حكمت الهجري
شكّلت احتجاجات السويداء الأخيرة، بقيادة الشيخ حكمت الهجري، نقطة تحول في علاقة الدروز مع النظام السوري. الهجري، بوصفه المرجع الديني الأول في الجبل، تَقدّم الصفوف في رفض الممارسات الأمنية، والفساد المستشري، وتدهور المعيشة، بل ووجّه رسائل حادة للنظام، ما جعله يُعد صوتًا للمظلومية الاجتماعية والكرامة الوطنية.
حراك السويداء لم يكن طائفيًا، بل عبّر عن اختناق شعبي عابر للطوائف، لكنه اتخذ بعدًا رمزيًا بسبب مشاركة القيادات الدينية فيه. وهذا ما أربك النظام السوري، ودفعه إلى الحذر في التعامل مع الهجري، خشية من توسع الشرخ داخل المكوّن الدرزي، الذي لطالما سعى النظام إلى تحييده أو تطويعه.
خاتمة واستنتاج
الطائفة الدرزية لم تكن في يومٍ من الأيام كتلة صماء، بل كيان مركّب من عقيدة باطنية، وخصوصية اجتماعية، وتقلّب سياسي يراعي حجمها الجغرافي والديمغرافي. وقد ظل الدروز، في سوريا ولبنان وفلسطين، يتنقلون بين الولاء للدولة، والحفاظ على الذات، والتحالفات المتبدلة بحسب المصلحة والموقع.
لكن الجديد في السويداء، أن الطائفة لم تعد تسكت عن الظلم، ولا تكتفي بالحياد، بل بدأت تُعبّر عن سخطها السياسي بشكل سلمي ومدني، ما قد يُنبئ بتحول أوسع داخل المجتمع السوري، قد يبدأ من الجبل، لكنه لا ينتهي عنده.
المراجع:
1- عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
2 – محمد كامل حسين، الديانات الباطنية في الإسلام، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة.
3 – عصام سخنيني، الدروز في التاريخ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981
4 – موقع الجزيرة نت والعربي الجديد (2023-2024): حول احتجاجات السويداء، تصريحات حكمت الهجري.