من تداعيات اندلاع الثورة الجزائرية في فاتح نوفمبر 1954، والتي سُمّيت لاحقًا بثورة التحرير، أنها أطلقت ديناميات معقدة، تجاوزت أهداف الاستقلال السياسي، لتطرح سؤالًا ثقيلًا حول معنى الحرية بعد الاستقلال، ومدى قدرة الثورة على التحول إلى مشروع حضاري لا إلى مجرد لحظة عسكرية. لم تكن الروايات والنصوص الأدبية حينها تنبئ بمآلات الحرب أو ترسم بدقة معالم ما سيحدث بعد زوال الاحتلال الفرنسي، كما لم تكن النخب اليسارية أو الوطنية تملك تصورًا متكاملًا للدولة القادمة، بل كانت تغرق في الحلم العاطفي الجامح بالاستقلال.
آمنت بعض التيارات أن الاستقلال سيفتح الأبواب أمام دولة ديمقراطية اجتماعية، تحكمها العدالة والتحرر والتكافؤ، لكن الواقع انقلب فجأة، وتحوّل الحلم إلى صراع على السلطة بين أبناء الثورة أنفسهم. صار واضحًا بعد سنوات أن الثورة لم تُكمل مشروعها، وأن الكفاح المسلح وحده لا يكفي لصناعة وطن يتسع لكل أبنائه.
لم تكتب الأدبيات الجزائرية في سنوات الثورة عن “ما بعد فرنسا”، بل كانت منشغلة ببطش العدو، والدم، والمقاومة، والانتهاكات. وعندما جاءت دولة الاستقلال، وُوجه الكُتاب بأسئلة الحريات، والتعددية، والهوية. لم يتنبأ الروائيون بنهاية تراجيدية أو نهاية يوتوبية، بل عاشوا اللحظة، يكتبون من داخل السجن، أو المنفى، أو على حافة الصمت.
لم تُنجز الرواية الجزائرية في مرحلة ما بعد الاستقلال قطيعة مع خطاب البطولة المطلقة، بل تبنّت في كثير منها خطابًا يُعيد إنتاج الثنائية: شعب مجيد، وخونة مذنبون، بينما تم تغييب طبقات أخرى من التجربة الوطنية، خاصة المهمّشين، والمنفيين، والضحايا داخل صفوف الثورة ذاتها. لم تُروَ كلّ الحكايات، ولم يُفسح المجال إلا لحكاية واحدة رسمية، سُميت بـ”الشرعية الثورية”.
لكن الأهم أن الكُتاب لم يتوقفوا عن الحفر في ذاكرة الألم، كتبوا عن سجون فرنسا، عن الجبال، عن خيانة الرفاق، عن القرى المحروقة، عن العذاب اليومي للنساء، عن الإعدامات الميدانية. كتبوا من عمق الكارثة، لا من منصة الاحتفال. وحين بدأ بعضهم يكتب عن “الاستقلال المغتصب”، اصطدموا بجدار جديد: نظام شمولي باسم الثورة، صادر الحلم، ونصّب نفسه وريثًا أوحدًا لدم الشهداء.
إن ما كُتب عن الجزائر ليس كله مرآة للثورة، لكنه مرآة للعلاقة المعقّدة بين الحلم والسلطة. إن ملايين القصص الحقيقية لا تزال في صدور الأمهات، والمجاهدين المنسيين، والمنفيين في الأطلس، وفي الشوارع التي داسها الاحتلال، ثم داسها الاستبداد.
ولعل الرواية الجزائرية اليوم، بعد عقود من الاستقلال، مدعوة لتفكيك الذاكرة الرسمية، لا لتكذيبها، بل لتحريرها من القداسة، ومن منطق الخطابة. فالدولة الوطنية التي وُلدت من رحم الثورة، صادرت في لحظة ما أصوات الثوار أنفسهم. ربما لهذا السبب لم تكتمل كتابة الثورة، ولن تكتمل، إلا بجرأة سردٍ حرّ، يتجاوز الحنين، ويفضح الخداع، ويبحث عن الإنسان وسط الركام.
أما إن جاءت ديمقراطية حقيقية بعد عقود، فستكتب رواية جديدة، لا تمجّد أحدًا، بل تحتفل بالحقيقة، مهما كانت مؤلمة. وربما سيكتبها جيل لم يعش الثورة، لكنه عاش آثارها على جسده وروحه وتاريخه.
وهران: 30-07-2025