مقالات

د. عاطف معتمد يكتب: الطريق إلى عيذاب!

قبل سنوات خلت، أمضيت عشرة أيام في «عيذاب» ومحيطها. يقع ميناء عيذاب على الساحل المصري من البحر الأحمر، غير بعيد عن البلدة الصغيرة «أبو رماد» في أقصى جنوب شرق مصر على الحدود مع السودان الشقيق.

ويذهب الرحالة في العصور الوسطى إلى أن اسم هذا الميناء الواقع قبالة جدة ومكة المكرمة إنما استمد من المشقة والعذاب التي يعانيها الحجاج.

لقد كانت مشاق الحجاج عبر قرون طويلة في هذا الطريق مردها صعوبة التضاريس، وندرة المياه، والحالة المتوترة أو العدائية مع قبائل «البجاة» التي كانت تسيطر على الشطر الجنوبي من صحراء مصر الشرقية.

وحري بنا القول إن قبائل البجاة لم تكن ذات سلوك عدائي تجاه الحجاج بقدر ما كانت لها اشتباكات ونزاعات مع السلطة المركزية في القاهرة، وهو ما انعكس على خشونة تعاملهم مع الحجاج، حتى أن الرحالة الشهير ابن جبير -الذي حج عبر عيذاب في 579 هجرية- ينقل لنا العبارة التي يتندر بها أصحاب القوارب (المصنوعة من ألواح الخشب) والتي يقولون فيها:

«علينا بالألواح وعلى الحجاج بالأرواح»

وفي ذلك دلالة على استخفافهم بعدد الموتى من الحجاج نظير الحصول منهم على أجرة النقل في بيئتهم الفقيرة.

كانت مسارات الحج منطبعة فوق الطرق التاريخية إلى عيذاب، والتي كانت الحضارة المصرية القديمة قد طرقتها في حملات عسكرية وتجارية وثقافية.

وكانت أهم هذه الطرق هي:

• قوص- القصير

• قفط-مرسى علم

• إدفو -برنيس.

غير أن الطريق الممتد من قوص (على ثنية قنا) إلى القصير (على البحر الأحمر) كان واحدًا من أهم طريقين إلى الحج. ولعل ذلك هو الذي جعل من ميناء القصير على البحر الأحمر أحد أهم نقاط العبور التاريخية من البحر الأحمر المصري إلى البحر الأحمر السعودي.

والحقيقة أن القصير لم تنشأ فقط لخدمة الحج في العصر الإسلامي، بل كانت أحد أهم موانئ مصر القديمة هي وميناء ساو (سفاجا الحديثة)، حيث كانت الحملات المصرية إلى بلاد بونت تنطلق من هنا.

على مدى ثلاثة عقود مضت سافرتُ في درب الحج المصري، في صحراء مصر الشرقية. ولأنى أفضل السفر على الأقدام أو في سيارات بطيئة الحركة أو أخيم في هذه القطاعات أو تلك، فقد تلمست في دروب الحج المصرية تلك الطبقات الحضارية المتراكبة التي لا يمحوها الزمن، وما تطبعه من أثر في النفس والعقل.

غير أن أكثر ما يستوقفني في رحلاتي تلك هو تعطل الوظيفة الحضارية لهذه الدروب مع الثورة الحديثة في وسائل الانتقال وسبل المواصلات، إذ ساهمت هذه الثورة في خلق مفاهيم جديدة في علاقات البشر عبر المكان، اصطلح على تسميتها بـ«موت المسافة» أو «موت الجغرافيا» دلالة على تراجع أهمية العوائق الجغرافية وتلاشى أثر المسافات البعيدة التي ظلت مهيمنة على حياة الإنسان وأخضعته للانسياق والإذعان.

لقد ظهر مصطلح «موت المسافة» مثالًا لتلاشى الأثر الحتمي للصعوبات والمشاق، وتناقص التهديدات والمخاطر التي أحاطت بالبشر خلال سفرهم إلى الحج عبر الطرق التقليدية. كان السفر عبر هذا الدرب يستغرق نحو شهرين متتابعين، وربما تجاوز ذلك إلى ثلاثة أشهر أو أربعة.

 وحين تقدمت وسائل المواصلات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت رحلة الحج لا تقل عن أربعين يومًا، وظل المعدل يتراجع مع تطور وسائل نقل البر والبحر حتى وصلنا اليوم إلى رحلة بالطائرة عبر بضع ساعات.

وقد لوحظ أن ثورة الانتقالات والاتصالات والمواصلات، بمثل ما جلبت من راحة وسهولة ويسر بمثل ما تسببت -عن دون قصد- في ضعف الوعي الجغرافي الإنساني، وتراجع فهم الإنسان للبيئة، وتفككت أواصر الارتباط العضوي الذي عاشه الإنسان دومًا مع المكان والتكيف مع تحدياته.

إن الحاج اليوم الذي ينتقل من القاهرة إلى مكة أو المدينة برحلة في الجو في بضع ساعات هو حاج فقير في وعيه الجغرافي، يعوزه ذلك الإدراك البيئي والتاريخي والأنثروبولوجي، أو ما يمكن جمعه في المصطلح الجديد الشهير «الطوبوفيليا» أي «حب المكان والارتباط به والانتماء إليه».

لقد اتجهت شعوب العالم الإسلامي إلى الحج في شكل أفواج وجماعات،

وكانت تحتشد في أربع محطات رئيسة:

– بغداد من جهة الشمال الشرقي،

– دمشق من جهة الشمال،

– تعز من جهة الجنوب،

– القاهرة من جهة الغرب.

وكان فوج الحج المصري يجمع معًا كل الحجاج الوافدين من بلاد الأندلس، وبلاد المغرب، وشمال إفريقيا وبلاد التكرور في غرب القارة الإفريقية علاوة على بلاد السودان، بل إن بعض المصادر تشير إلى أن موكب الحج المصري كان يستقبل حجاجًا من مسلمي روسيا وأوروبا، حين كان هؤلاء يتخذون مسارًا بحريًا من البحر الأسود إلى البحر المتوسط فيبلغون الإسكندرية ثم ينضمون إلى الموكب المصري المنطلق من القاهرة. كان موكب الحجيج المصري يتنقل بين معالم جغرافية في نزهات ممتعة تجمع بين المعرفة والتجارة والسفر المقدس، مثلما تجمع بين المخاطرة والمجازفة والترقب والخوف والرجاء.

وكي يبلغ الحجاج القاهرة للتجمع والانطلاق كان بعضهم يفد برًا من السلوم عبر مريوط إلى الإسكندرية، أو من بلاد الشمال الإفريقي بحرًا إلى الإسكندرية، ومن هذه الأخيرة يركبون النيل إلى القاهرة. أما الوافدون من الجنوب فيأتون عبر درب الأربعين أو النيل من أسوان والنوبة.

وخلافًا لما هو معتقد من أن درب الحج المصري كان يتجه من القاهرة إلى سيناء ومنه إلى الحجاز فإن أصل الطريق المصري للحج كان عبر صحراء مصر الشرقية فيما يعرف بطريق عيذاب الذي اندثر اليوم وصار أثرًا بعد عين.

على المستوى الروحي، تركت رحلات الحج أدلة مقدسة في كل الصحاري المصرية. وهناك مقامات وأضرحة للأولياء الذين لقوا ربهم في طريق الحج بالصحاري المصرية. ولعل أشهرهم قصة العارف بالله أبى الحسن الشاذلي المتوفى هنا في 656هـ، في صحراء حميثرة في طريق عيذاب. وقد أعطى أبو الحسن الشاذلي اسمه لقطاع مهم من وسط صحراء مصر الشرقية في طريق عيذاب، والذي بلغت محبة أهل الصعيد له أن توافدوا بعشرات الآلاف إلى زيارة مقامه والاستراحة في جواره. في ذكرى مولده من كل عام.

د. عاطف معتمد

أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى