الأحد أكتوبر 6, 2024
بحوث ودراسات

د. عاطف معتمد يكتب: دفاع مستنير عن الشخصية المصرية!

مشاركة:

يعتقد الناس أن الحديث عن الشخصية المصرية عبر عن نفسه بوضوح في مؤلفات نعمات أحمد فؤاد، وحسين مؤنس، وجمال حمدان، وذلك في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.

الحقيقة أن أحد الآباء الشرعيين الكبار للحديث عن الشخصية المصرية بشكل واضح هو عباس العقاد، قبل ثلاثة أو أربعة عقود من ظهور مصطلح شخصية مصر والشخصية المصرية في الفكر المصري المعاصر.

والطريف أن العقاد لم يكن يتناول الشخصية المصرية في كتاب مستقل أو نزعة قومية على نحو ما قدم المؤلفون من بعده، بل كان يرصد نمو الحركة الوطنية وتبلور الشخصية المصرية في عنفوان الاحتلال والملكية، معبرا عنها في جيل سعد زغلول.

ففي عام 1936 قدم عباس العقاد كتابا عن سيرة وحياة سعد زغلول، فيما يزيد عن 600 صفحة. وهذا الكتاب غير مشهور بين الناس، مقارنة بالنسخة الأصغر المتداولة حاليا والتي لا يزيد حجمها عن 160 صفحة عن سيرة زعيم الأمة.

خصص العقاد نحو 40 صفحة من هذا الكتاب لما أسماه ” الطبيعة المصرية في أوهام الناس”.

سنفهم من قراءة الصفحات الأربعين أن العقاد يقصد بالطبيعة ما سيعرف لاحقا باسم “الشخصية”.

الطبيعة المصرية عند العقاد تتعرض لهجوم وافتراء، وهو ما استوجب من صاحب القلم الغيور أن يفند تلك الافتراءات والأوهام على النحو التالي

(1) رأس الأكاذيب

ورأس الأكاذيب عن الطبيعة المصرية أنها أمة لا تحكم نفسها بنفسها ولا تبالى غارة الأجنبي عليها.

وقد فند العقاد هذه التهمة باستعراض تاريخ الأمم في العالم ووجد أن المصريين – حسب تاريخهم المقدر بآلاف السنين- لا يصدق عليهم هذا القول، كما أن الأمم التي تقذفهم بهذه التهمة وقعوا أنفسهم لحكم الأجانب عليهم وتسلطهم على بلادهم من قبل.

والتاريخ كما يقول العقاد قائم على غالب ومغلوب، وفي تاريخ انجلترا أو فرنسا أو المانيا أو ايطاليا أو تواريخ الفرس والهند والصين وبقية شعوب المشرق والمغرب لم ينج منها شعب واحد من سلطان الأجانب عليهم.

يذهب العقاد إلى الحجة التي سيتأثر بها جمال حمدان بعد نصف قرن في دفاعه عن شخصية مصر، ونجدها هنا في نسختها الأصلية عند العقاد حين يقول:

“وربما كانت مزية الأمة المصرية على أمم كثيرة في هذه الخلة أن الحاكم الأجنى كان ينتحل دينها ويتخذ عاداتها ومراسمها ويحفظ ماله في أرضها ولا ينقله إلى عاصمة بعيدة منها”.

(2) تاريخ من أفواه الأعداء

يرى العقاد أن الاتهام الموجه للمصريين بالخضوع للسطوة الأجنبية أكبر من اتهام الأمم الأخرى به، مرده أن المصريين “أمة لها تاريخ قديم متصل بالعالم في شرقه وغربه وقديمه وحديثه، فالأخبار عنها متصلة وذاكرة الشعوب بأخبارها مشغولة، ولأن العالم القديم والعالم الحديث كليهما قد تلقيا تاريخ هذه الأمة من أفواه الأعداء والمغرضين، ولم تحفل الأمة المصرية بتصحيح ما يقال عنها، لأن تصحيح التواريخ القومية بدعة جديدة لم يعرفها العالم إلا مؤخرا، بل لم يعرف خطرها ومبلغ الحاجة إليها قبل عصرنا الأخير.

وأول الأعداء الذين افتروا على تاريخ مصر ونقلوا لشعوب العالم افتراءات عنهم هم اليونان، الذين كانوا يعملون في مصر مرتزقة في الجيوش المصرية في الفترات الأخيرة من تاريخ مصر القديمة، ولأن هؤلاء كانوا مرتزقة وينظر إليهم المصريون نظرة أدنى من أبناء الوطن، فقد عوضوا ذلك بتشويه سمعة المصريين في مؤلفاتهم وكتبهم.

(3) افتراء على مصر باسم الكتاب المقدس

المصدر الثاني للافتراء على المصريين هو ما جاء في قصص قوم موسى وطردهم من مصر وهنا قام هؤلاء بعمل تعويضي بتصوير المصريين في كتبهم المقدسة في صورة أدنى وبدأوا في نشر افتراءات عنهم بين الشعوب التي انتشروا إليها في أوطان الشتات، ولا سيما أن مصر لم تطردهم من أرضها في شرق الدلتا إلى خارج سيناء فحسب بل تركتهم يتعرضون لهجوم البابليين دون أن تقدم لهم المساعدة التي طلبوها. وقد نشر هؤلاء عبر التاريخ صورا وافتراءات عن مصر وتم تكريس هذه الصور وكأنها وحي سماوي قرأه المؤمنون بهذه الكتب المقدسة.

(4) إساءة تفسير إسلامي

المصدر الثالث للافتراء على الطبيعة المصرية جاء من مصر الإسلامية التي قبلت بالروايات الدينية الموسوية وأساءت تفسير اسم “فرعون” الذي ورد في القرآن، ووقع المصريون أنفسهم في خطأ اعتبار كل ملك مصري قديم هو فرعون ظالم يستحق لعنة السماء.

(5) هجاء المتنبي

يأسف العقاد لأن بعضا من أدباء مصر والعالم العربي يصدقون المتنبي الذي كتب شعرا في هجاء مصر والحط من قدر أهلها لأنه لم يحقق مطامعه في السياسة.

يقول العقاد إن سطوة المتنبي وتبعية الأدباء المصريين وغيرهم من العرب روجت لأشعار المتنبي الذي ذم فيها مصر حين لم يحصل فيها على مراده.

إن أشعار المتنبي عن مصر –يقول العقاد – مفيدة جدا في أن نتعرف على نفس المتنبي وطبيعته لا أن نتعرف من خلالها على الطبيعة المصرية.

(6) الاحتلال الأوروبي

وأحدث موجة من موجات الافتراء والأوهام عن الطبيعة المصرية روجتها الدول الاستعمار لتجد مبررا لنفسها في غزو واحتلال شعب مغلوب على أمره يقبل الحكم الأجنبي ويتصف بالجبن والخنوع والاستسلام ولا يجب أن يطمح لاستقلال.

يقول العقاد آسفا:

“هكذا دونوا لنا تاريخنا ولقنوه لنا في المدارس والكتب حتى رأينا منا من يصدقه ولا يتحرج من تلقينه على هذه الصورة لصغار الأبناء، كأنه يحافظ على أمانة الدرس ويتحرج من التصرف في لوح العلم المحفوظ! “.

حسنا، إذا كانت هذه هي أوهام وافتراءات، كيف تبدو الطبيعة المصرية على حقيقتها؟

قبل أن يعطينا العقاد الإجابة ينبهنا إلى أننا لا يجب أن نقع في خطأ مماثل بتقديس الطبيعة المصرية فالأمة المصرية ليست معصومة من العيوب والمآخذ، وليست الأمم العريقة مثل الأمة المصرية في حاجة -يقول العقاد- إلى هذا الضرب الرخيص من التقديس والتنزيه، فتحصر لنفسها المناقب وترجم الأمم الأخرى بالنقائص والمثالب.

إن هذا الضرب الرخيص هو نهج الأمم الحديثة التي لا تاريخ لها، والتي تفتري على الأمة المصرية.

(7) الجغرافيا التاريخية

في صفحة 18 من كتابه عن سعد زغلول يصيغ العقاد تعبيرات تدعم فرضيتي بأنه الأب الشرعي لمفهوم الشخصية المصرية الذي سيظهر بعد عقود لاحقة حين يقول:

“ولعلنا لا نلخص الأمة المصرية في كلمة أوجز وأصدق وأجمع من وصفها بصفتها الجغرافية التاريخية المتفق عليها، وهي أنها أمة طويلة التاريخ قديمة عهد بالمدنية في أرض زراعية”.

وبهذا الوصف يمكننا فهم الطبيعة المصرية وأخلاق وعادات أهلها، وغرائبها ونقائضها. فالأمة المصرية يقول العقاد:

“ليست أمة بداوة تتوثب إلى الحرب لأنها باب الرزق وطريق السلامة من الجار المعتدى أو الجار المخيف، ولكنها أمة حضارة: مستقرة ومعيشة منتظمة تلجأ إلى الحروب حين تلجأ إليها لأنها ضرورة لا محيص عنها ونكبة لا تستهين بها إلا اتقاء لنكبة أكبر منها، وأصعب عاقبة من عاقبتها. وهي لا تطيع حكامها كما يطيع البدوي زعيمه أو كما يطيع العسكر قائده: إلى الحرب يا رجال فاذا الرجال كلهم على أهبة القتال!

وإنما هي أمة توارثت العقائد والمأثورات جيلا بعد جيل وأصبح لها من بعض تلك العقائد تراث تصونه فوق صيانة المصلحة وتغار عليه أشد من غيرتها على المال والثروة، ثم هي أمة ذات أرزاق مطردة ومعيشة مستقلة لا يعنيها صلاح الحاكم كما يعنيها صلاح الأرض والسماء والعوارض والأجواء، فاذا دعاها الحاكم إلى حرب لا تعنيها فذلك شأنه وليس بشأنها وتلك خسارته وليست بخسارتها، أما إذا أصيبت في عقائدها وموروثات. أو ظهر لها الجور على أرزاقها ومرافقها فهناك يستعصي قيادها كأشد ما يستعصي قياد أمة وهناك تصمد للحرب كما يصمد لها المقاتل المجبول عليها”.

(8) الاستسلام والثورة

ثم يمضي العقاد في تفنيد مسألة الخنوع والاستسلام فيقول:

“لو أحصيت الثورات في تاريخ مصر القريب لما كانت في عددها دون ثورات الأمم التي اشتهرت بالتمرد ولم تشتهر بالاستسلام، فقد ثار المصريون على الفرنسيين وثاروا على الترك والمتتركين؛ وثاروا على الانجليز في نحو قرن واحد، وكان للعقيدة والموروثات في معظم هذه الثورات دخل أظهر من دخل المصلحة والمرافق القومية أو الفردية”.

ثم يكتب العقاد رأيا سيستعين به جمال حمدان وينقله عنه في عام 1984 في الجزء الرابع من شخصية مصر، يقول العقاد في عام 1936 عن الطبيعة المحافظة التي لا تخلو من ثورة وتمرد:

“ونحن لا نستطيع أن نفهم كيف يكون المصري محافظا شديدا في المحافظة ثائرا متأهبا للتمرد إلا إذا فهمنا حبه للأسرة وحبه من أجل ذلك للموروثات والتقاليد، فهو محافظ كما تحافظ جميع الأسرات على تراثها، وهو من أجل المحافظة على التراث مستعد للثورة أبداً لصيانة موروثاته وتقاليده. وقد يبدو غير معقول في ثورته وهياجه لأن العهد بالناس أن يستغربوا الثورة من المحافظين المقلدين، ويزيدهم استغراباً لها أن لا يجدوا تفسيرا لها من خوف الضرر على المصالح والمنافع. فيقولون مدهوشين: أمثل ذلك الشعب الوادع المستقر يثور هذه الثورة لمثل هذا الضرر اليسير أو لغير ضرر على الاطلاق؟ والواقع أن الذى يثور هذه الثورة غالباً هو المحافظ المغرق في المحافظة، لأنه لفرط محافظته ينسى المصلحة في سبيل العادات ولطول الكبت أثر في هذا الجنوح إلى التمرد كلما سنحت الفرصة التي تنطلق فيها الغرائز وتخرج فيها على القيود “.

(9) الثابت والمتغير

عاد حمدان إلى العقاد بعد نصف قرن من توصيف الشخصية المصرية، هل ما قاله العقاد في ثلاثينيات القرن العشرين بقي صالحا لكي يستعين به حمدان في مطلع ثمانينيات القرن العشرين؟

وهل ما قال به كل منهما يصلح للاستشهاد اليوم في 2024 في كل ظل كل التغيرات العاصفة في الداخل والخارج؟

انظر مثلا إلى اعتماد جمال حمدان على تفسير العقاد للعلاقة بين المصري والسلطة، التي يقول فيها العقاد:

“المصري اجتماعي من ناحية الأسرة وعراقة المعيشة الحضرية، أو اجتماعي من ناحية انتظام العادات والعلاقات منذ أجيال مديدة على نظام الاسر والبيوت، وهذا هو أقوى ما يربطه بالمجتمع أو يربطه بالأمة والحياة القومية، وهو ارتباط أقوى في نفسه جداً من ارتباط النظام السياسي والمراسم الحكومية. فلم تكن الحكومة في تلك الأزمان الطويلة لتمتزج بنفسه قط امتزاج الألفة والطواعية والمعاملة المشكورة. بل ربما كان صدوده عن الحكومة مما ضاعف اعتماده على الأسرة وحصر عواطفه الانسانية في علاقاته البيتية، لأنها ملجأ خفيض ومهرب أمين من القسوة والمظالم، وغاية ما يخامره من أمر الحكومة أنها شيء يدارى ما استطاع له المداراة، ويستفاد من سطوته وجاهه ما تيسرت الفائدة، ولا بأس بإرضائها بالهدايا والمجاملات في غير حفيظة ولا استكراه، ولا عجب في هذا الشعور المبهم في زمن كان الناس فيه يعبدون آلهة الشر ويتزلفون اليها بالصلوات والقرابين! فعلاقته بالحكومة على الأغلب الأعم هي علاقة عداوة مريبة أو مهادنة محتملة،”

ثم يستدرك العقاد قائلا:

“لكن لا ينبغي أن يفهم من هذا أن المصري ضعيف الاهتمام بالسياسة أو أنه مصدوف عن تتبعها واستطلاع أخبارها ومجرياتها، أو أنه قليل البصر بمداخلها ومخارجها، فان الواقع قد كان على خلاف ذلك بل على نقيضه في عصور كثيرة، والمشهور عن المصريين أنهم من أشد الأمم شغفاً بأحاديث الدول وعناية باستطلاع أحوال الحكومات، وإذا بدا على المصري أحيانا أنه ينقاد في السياسة فليس معنى ذلك أنه لا يفهم. بل معناه أنه ينقاد لأن الطاعة أشبه بنظام الأسرة من جهة، ولأن أزمنة الركود الطويلة من جهة أخرى ليس من شأنها أن تبعث روح الابتداء والاقتحام، فالبقاء في الصفوف أيسر عنده من التفرد باعتساف الطريق، وهو حتى في ثورته يريد أن يرى الصفوف حوله ولا يريد أن يعتسف الطريق وحده”.

Please follow and like us:
د. عاطف معتمد
أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *