دماء آسيوية في عروق الشرقية!
د. عاطف معتمد
قدم عباس عمار رسالته للدكتوراة عن سكان الشرقية في نهاية ثلاثينيات ومطلع أربعينيات القرن العشرين خلال بعثته التي أوفدته فيها جامعة فؤاد الأول إلى جامعة مانشستر في انجلترا، وذلك قبل نحو 10 سنوات من حرب عام 1948 وتأسيس دولة إسرائيل في فلسطين.
فيما يلي قراءة عرض موجز لما جاء في الفصل الأول من رسالته، مؤملا أن أصدر تحقيقا مفصلا عن الرسالة في المستقبل إن شاء الله
🔹️ يعتبر إقليم الشرقية مفتاحا لفهم تاريخ حضارات الشرق الأدنى، إذ كانت هذه الأرض مسرحا لالتقاء نوعين من القوى في العالم القديم: قوة الرعاة من القبائل البدوية المرتحلة وقوة المزارعين في الحضارات النهرية المستقرة. وكان الصدام بين القوتين مسؤولا عن تشكيل خارطة الشرق الأدنى في كثير من المراحل.
🔹️ لا خلاف بين العلماء أن مديرية الشرقية هي امتداد طبيعي لأرض سيناء، وبالمثل هي امتداد لشرق دلتا النيل، وهو ما يجعلها عرضة لكل الغزوات التي تعرضت لها مصر من غرب آسيا، تلك الغزوات التي أضافت دماء في عروق أبناء الشرقية.
🔹️ لا يوجد مكان محدد في الشرقية يمكن اعتباره الأرض التي عاش فيها بنو إسرائيل قبل طردهم من مصر. فإذا سلمنا بما جاء في العهد القديم من أن بني اسرائيل عاشوا في “جاشان” فإنه لا يمكن العثور على أي دليل يحدد بقعة بعينها في مديرية الشرقية عاش فيها بنو إسرائيل، فما يشير إليه العهد القديم (سفر التكوين) باسم جاشان هو مسمى عام يطلق على كل شرق دلتا النيل في الهامش الصحراوي بين الطين اللزج ومراع الأراضي شبه الجافة.
🔹️ تعرض سكان مديرية الشرقية لمؤثرات بشرية أضافت إلى دمائهم عبر تاريخ طويل منذ نشأة الأمم والحضارات. وهنا يرفض عباس عمار (في وقت مبكر للغاية وفي دلالة على حرية الفكر وعدم انسياقه) تلك النظريات التي شاعت في أوروبا من تقسيم سكان الشرق الأدنى ومعها مصر إلى ثلاثية «سام وحام ويافث» والتي يخص مديرية الشرقية منها أبناء سام. وسبب رفض عمَّار أن مصطلح «سامي» مربك للغاية ومختلط ويتم تسييسه ولا علاقة له بالعلم الحديث.
🔹️ السبب السياسي الدافع الذي ساق كل الأقوام المرتحلة التي نزحت إلى الشرقية عبر تاريخ مصر القديمة كان في الحقيقة يأتي رد فعل لما يحدث في كل من بلاد ما بين النهرين (العراق) وشرق المتوسط (بلاد الشام) إذ كلما قامت هناك قوى عظمى ذات قدرات حربية كبيرة تستقوي بها وتستفحل على الشعوب البدوية كلما اضطرت جماعات كبيرة للهجرة عبر سيناء وصولا إلى شرق دلتا النيل. وهناك أيضا سبب بيئي كبير وهو حدوث نوبات جفاف وشح في الأمطار والمرعي يؤدي إلى سوق هذه القبائل المرتحلة إلى أرض مصر في موجات حاشدة جرارة.
🔹️ كانت مديرية الشرقية أرضا مضيافة للغرباء خاصة من القبائل المرتحلة عبر الصحراء من محترفي الرعي والحياة المتنقلة. وسبب ذلك أن مياه النيل كانت تصل إلى مديرية الشرقية وقت الفيضان عبر فرعين من الفروع القديمة للنيل قبل اندثارها وجفافها وهما الفرع «التانيتي» (والذي تنسب إليه تانيس) والفرع البيلوزي. وحينما ينحسر الفيضان عن هذين الفرعين كل عام تتحول أرض الشرقية إلى مراع خصبة، لكن ثروتها الرعوية لم تكن تشغل بال حكام مصر الذين كان لديهم من الأرض الخصبة العظيمة في عمق الوادي والدلتا ما شغلهم عن تعمير هذا الإقليم من الأرض الرعوية.
🔹️ كان المصريون القدماء يرحبون بالوافدين الغرباء طالما عاشوا في إقليم الشرقية دون أن يسببوا أية مشكلات أمنية، وطالما كان قدومهم طلبا للمرعى، وهناك بالفعل اتفاقات تحفظها بعض أوراق البردي تدل على منح ملوك مصر القديمة هؤلاء الرعاة ميثاقا للحياة في إقليم الشرقية.
🔹️ يتبنى عباس عمار في رسالته للدكتوراه قبل ٨٠ سنة وجهة نظر تقول إن الهكسوس لم يأتوا غزاة محاربين لاحتلال مصر بل جاءوا بأطفالهم ونسائهم وحيواناتهم (وهم أول من أدخلوا الحصان إلى أرض مصر) وطلبوا في البداية الحياة على هامش خيرات مصر قبل أن يستغلوا ضعف المصريين لاحقا ويفرضوا سيطرتهم كغزاة أجانب في نهاية الأسرة الثانية عشر.
🔹️ يرفض عباس عمار النتائج «الدوغماتية» التي رددها أحد أكبر علماء الآثار في ذلك الزمان وهو فلندرز بتري والذي خلص إلى أن «سكان الشرقية المحدثين يحملون مؤثرات أنثروبولوجية وملامح الغزاة السابقين من الهكسوس واليهود وغيرهم من الموجات النازحة على شرق الدلتا». وسبب الرفض أنه لا يوجد أي تحليل علمي لهذه الخلاصة خاصة عدم وجود جماجم للموتى أو هياكل عظمية محفوظة من تلك الغزوات.
🔹️ورغم التسليم بأن الهكسوس تركوا آثارا وتماثيل في صان الحجر (تانيس) يرفض عباس عمَّار الربط الذي قام به عالم الآثار الشهير مارييت من أن سكان منطقة المنزلة في الشرقية هم أحفاد الهكسوس، إذ من غير المقبول التسليم بذلك فقط بناء على بعض تشابه ملامح وجوه هذه المنطقة وبعض التماثيل التي تركها الهكسوس في منطقة صان (تانيس). وأسباب هذا الرفض عند عباس عمار كثيرة أهمها أن الهكسوس كانوا خليطا من أقوام مرتحلة متعددة ولا يمثلون عرقا واحدا. في المقابل لا يرفض عمار فرضية حدوث تزاوج بين الوافدين وأصحاب البلاد الأصليين في إقليم الشرقية لكن كل ذلك تم «امتصاصه» في الكتلة السكانية الرئيسة.
من صفحة الكتاب الشخصية على الـ فيسبوك