مقالات

د. عاطف معتمد يكتب: سلوني قبل أن تفقدوني!

توفي أحد المفكرين المصريين، توالت التغريدات قائلة «فقدت الأمة المصرية عقلا لا نظير له».

يتكرر هذا الموقف مرة كل بضعة أشهر في مصر المعاصرة.

أفكر دوما حيال تلك الحالة، وأجملها هنا في ثلاث خواطر:

▪️ يبدو أن معظم الذين يرحلون عن عالمنا من رموز الفكر المصري يرحلون بجسدهم، أما تأثيرهم الثقافي فبكل أسف توقف عند بعضهم منذ عقدين على الأقل. أي أن الرجل الذي توفي في عمر الثمانين أو التسعين توقف عن المشاركة الفكرية الفعلية في عمر الستين أو السبعين. لماذا لم يعد هؤلاء يشاركون خلال السنوات العشرين الماضية؟ الإجابة قد تكون عزوف واحترام للنفس وسط الفوضى، وقد تكون لأسباب صحية في مرحلة الشيخوخة. لكن الأكيد أنهم رحلوا فعلا قبل 20 أو 30 سنة وليس اليوم. والسؤال هنا لماذا ننتبه لرحيلهم الجسدي ولم يقلقنا ويحزننا رحيلهم الفكري حين كانوا يعيشون معنا في هذه الحياة؟

▪️ إذا نظرت إلى التكوين الفكري لهؤلاء الراحلين -الذين لن نعوضهم- ستجد أنهم مواليد الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وبالتالي تفتحت عقولهم على مراحل التحول الفكري المصري من العهد الملكي والاحتلال الإنجليزي إل العهد الجمهوري الثوري، ومن الإقطاع إلى الماركسية، ومن الرأسمالية إلى الشيوعية، وغير ذلك من التحولات الفكرية الكبرى، وما تشمله حتى من الإسلام والعلمانية وصراع التراث والتجديد. وهذه التحولات هي التي صنعت عقولهم وجعلتهم في غاية التميز والتجديد، لكن ماذا حدث في آخر ثلاثين سنة في مصر من أيديولجيات؟ ليس أكثر من معارك الإسلام والتطرف والإرهاب والسلفية والعسكرية والاستبداد وإقصاد الديموقراطية. وهنا ستجد ان أغلب هؤلاء المفكرين وحين بلغوا من العمر ستين عاما آثروا عدم الخوض في هذه الانتكاسات. وبالتالي رحلوا قبل رحيلهم بعقدين أو ثلاثة.

▪️ حين يرحل هؤلاء تتواتر عبارة فريدة أظنها حالة حصرية على مصر فقط، وذلك حين يقول المشيعون «رحل رجل لن تعوضه الأيام؟» لماذا لا تعوضنا الأيام عن الراحلين؟ إن هذا القول يعني أنه لا مستقبل لهذا البلد، وان الأحفاد لا يمكنهم تعويض الأجداد، وأن الحاضر أكثر تواضعا من الماضي.

أليس في هذا ماضوية وسلفية فكرية؟

ورغم ذلك، ما تزال هناك فرصة من أجل اللحاق بالباقين على قيد الحياة من المنتجين الفاعلين، حتى لا ينطبق عليهم القول المنسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب، حين قال لأصحابه وهو يتنبأ بالرحيل:

«سلوني قبل أن تفقدوني!».

د. عاطف معتمد

أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى