الأثنين مايو 20, 2024
مقالات

د. عاطف معتمد يكتب: شمس منتصف الليل!

غير مصدق نفسي قبل 9 سنوات مضت وفي نفس أيام شهر رمضان الكريم، قمت بتوثيق لحظة نادرة لطالما قرأت عنها في كتب عجائب الجغرافيا والفلك.

أنا عادة لا أطيق حمل ساعة يد، ذلك أنني في بلاد النيل أستطيع أن أخبرك بالتوقيت الصحيح في أي ساعة من نهار أو ليل دونما حاجة إلى ما يقيد معصمي.

لكن الصورة المرفقة كانت تستوجب توثيق اللحظة، الساعة الآن تقترب من منتصف الليل والشمس ما تزال ساطعة في الأفق وتبدو قرصا منيرا تنزل بين عمارتين كبيرتين في مدينة «مورمانسك» داخل الدائرة القطبية التي تجمع روسيا بكل من فنلندا والنرويج.

سأعترف لك من البداية أنني لم أصبر في رمضان تلك السنة حتى لحظة غروب الشمس هذه التي ستحدث في منتصف الليل كي أتناول إفطاري وبعدها بعدة دقائق تشرق شمس يوم جديد فأشقى بصيام نهار طويل سرمدي.

  صحيح أنني جئت «مورمانسك» قادما من موسكو في زيارة عابرة لمدة أربعة أيام مستكشفا هذه المدينة لكنني حتى في موسكو كنت آخذ بالفتوى الشهيرة لمسلمي المناطق الشمالية وكنت أفطر وفق توقيت أقرب بلد إسلامي.

تبيح الفتوى الشهيرة المعروفة لمسلمي البلاد القطبية بالإفطار وفقا لأقرب بلد إسلامي حتى السابعة مساء بدلا من الشقاء حتى ساعة متأخرة من الليل.

المدهش أن مسلمي هذه المناطق قبل الفتوى التي صدرت منذ القرن التاسع عشر -والتي صدرت من مصر وأباحت لهم الإفطار وفق توقيت الدولة العثمانية آنذاك- كانوا يصومون ما بين 20 و22 ساعة في اليوم في بعض السنوات. هل تصدق هذا؟ أي إيمان من حديد؟  أي عزيمة من فولاذ؟

السؤال الذي سيخطر على بالك هو: كيف وصل الإسلام إلى هذه البلاد على حدود المنطقة القطبية الشمالية؟

الحقيقة أن القصة تعود إلى العهد القيصري حين دفعت موسكو ببعض مسلمي آسيا الوسطى وتترستان للعمل في المناطق حديثة التعمير في القطب الشمالي ومن بينها هذه المنطقة التي أزورها في «مورمانسك».

لماذا تبقى الشمس إلى منتصف الليل؟ دعني أغامر وأجرب تبسيط معلومة معقدة في كلمات بسيطة:

الأرض ليست كروية كما ندرس لطلابنا بل هي أقرب إلى شكل بيضي عريضة من المنتصف ومستدقة من الطرفين عند القطبين الشمالي والجنوبي.

نعلم أن الأرض تدور حول نفسها بمحور مائل قبالة الشمس في دائرة واسعة تسمح لنصف الأرض بأن يقابل الشمس (النهار) بينما النصف الآخر لا يرى الشمس (الليل) ومن ثم تتعاقب دورة الليل والنهار.

في فصل الصيف الشمالي كلما اتجهنا شمالا بعيدا عن خط الاستواء تصغر دوائر العرض في الشكل الكروي أو الييضي للأرض حتى إذا وصلنا إلى المنطقة القطبية صارت الدائرة صغيرة للغاية لدرجة أن الأرض حينما تدور حول نفسها بمحور مائل قبالة الشمس لا يختبئ منها أي شطر فتبقى الشمس ظاهرة في الأفق في نهار متصل يصل في بعض الأحيان -كما في أقصى شمال النرويج- إلى 90 يوما نهارا متصلا بلا ليل.

ولمن يبلغون نقطة القطب الشمالي من مستكشفين أو علماء أو عسكريين في بلاد الشمال يمكنهم أن يروا شمسا لا تغيب لمدة 6 أشهر متتالية.

ويحدث العكس تماما بحلول الصيف الجنوبي حينما تدور الأرض قبالة الشمس مواجهة إياها بنصفها الجنوبي فتكون المناطق القطبية الشمالية بعيدة جدا عن الشمس فيحل فيها ليل دائم لا يرى الشمس، وسنحتاج الفتوى نفسها هنا أيضا كي نحدد ساعات صوم وفق أقرب بلد إسلامي كي لا يجد المسلم النهار قصيرا جدا لا يزيد عن بضع ساعات لا تليق بفقه الصيام الإسلامي.

ها هي السطور تنتهي قبل أن أكتب نفحة عن مدينة «مورمانسك» التي انتزعها الروس هنا من بين جليد وبحر وجبل ليجعلوا منها قلعة صناعية، ومقرا للأسطول النووي، وقاعدة للنقل البحري عبر القطب الشمالي، ويجعلوا منها منطقة محظورة على الغرباء.

لم أكتب شيئا عن مورمانسك التي تقف على مرمى حجر من حدود النرويج، ومرمى حجرين من حدود فنلندا، مورمانسك التي عرفنا منها ومن فنلندا في القرن التاسع عشر أن المسلمين الذين جاءوا هنا لديهم حالة خاصة جدا وهي الصيام حتى «شمس منتصف الليل».

Please follow and like us:
د. عاطف معتمد
أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب