الجمعة مايو 17, 2024
مقالات

د. عاطف معتمد يكتب: عليك بالورد اليومي!

في واحدة من المرات النادرة في السنوات الأخيرة استمعت اليوم إلى خطبة الجمعة من أولها لآخرها بكل تركيز واقتناع.

كانت البداية مثيرة حين صعد على المنبر شيخ أزهري في الأربعين من عمره، بثياب أنيقة ولحية مصففة ونظارة طبية حديثة.

أشعر بقلق دوما من الأناقة الكاملة لدى رجال الدين، وقد توقعت خطبة جوفاء اتساقا مع مبدأ شهير هذه الأيام يقول إن المظهر الكامل في بلادنا لا يقابله جوهر سليم.

لكن المفاجأة السارة أن الخطيب الأزهري كان ضليعا عالما رقيقا متواضعا واثقا موزونا.

أعلمنا الخطيب – الذي أزور مسجده لأول مرة – أن الخطبة سلسلة من الأقاويل المأثورة التي يظن أنها أحاديث شريفة.

كان موضوع اليوم القول المأثور: “قليل دائم خير من كثير منقطع”.

يقول خطيبنا إن القول المأثور الجميل يتشابه مع حديث شريف يقول شطر منه “إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل”.

واستشهد خطيبنا بحديث شريف آخر يقول:

“إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق.. فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي”.

والمنبتُّ شخص طموح طماع يسافر على ظهر دابة يريد أن يقطع أرضا طويلة في السفر ليربح أكبر ربح لكنه في منتصف الطريق، ومن فرط الضغط والإرهاق الذي أصاب به ظهر دابته تسقط منه قتيلة، فلا هو كسب أرضا ولا هو أبقى على ظهر الدابة.

يقول الخطيب إنه من البديهي أن الصورة المثالية أن نسعى إلى خير كثير دائم.

لكن لأن ذلك أمر صعب فإن الخيار الذي يجب أن نتمسك به هو “الدوام” وليس “الكثرة”.

ويجب أن اعترف أنني شردت من الخطبة بضع دقائق رغم تشويقها.

فقد عادت بي الذاكرة إلى عام 1992 حين عينت معيدا واقتربت من أستاذ شاب كان يدرس لنا بعض محاضرات مساعدا للأساتذة الكبار وقت تغيبهم.

كان الأستاذ الشاب اسمه عبد المنعم عبد الهادي. وكان ينهي رسالته للدكتوراه.

وحين عينت معيدا كنت معجبا به أشد إعجاب، فطلبت منه نصيحة آخذ بها في مستقبلي فقال لي «عليك بالورد اليومي».

عبد المنعم عبد الهادي من الفيوم، وقد نشأ نشأة دينية على الأخلاق القويمة الحميدة.

ولما سألته “أتقصد وردا في تلاوة القرآن أو الذكر ؟!”

قال: “بل ورد جغرافي” ثم مضى يشرح مقصده قائلا:

اجلس كل يوم مع دروسك 8 ساعات.. فإن لم تستطع فأربع فإن لم تستطع فساعتين وإن لم تستطع فحسبك أن تلمس كتبك وأوراقك وترتبها وعدًا باللقاء في يوم الغد.

اختطف الموت عبد المنعم عبد الهادي بعد سنوات قليلة من حصوله على الدكتوراه.

ومنذ أن أعطاني هذه النصيحة وأنا آخذ بها.

عدت من شرودي إلى خطيب المسجد الأزهري المفوه العالم الموزون فوجدته قد أنهى الخطبة ورفع أكف الدعاء لغزة وأهلها.

دعوت مع الخطيب لأهلنا في غزة ودعوت بالرحمة لأستاذي الذي خطفه الموت شابا:

عبد المنعم عبد الهادي الذي لم يترك كتبا ولا مؤلفات سوى رسالتيه للماجستير والدكتوراه،

 لكنه ترك فينا أثرا طيبا وتعلمنا منه مبدأ عظيم اسمه: «الورد اليومي».

Please follow and like us:
د. عاطف معتمد
أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب