الأحد مايو 19, 2024
مقالات

د. عاطف معتمد يكتب: قراءة للكبار فقط!

قبل 10 سنوات ترجمت إلى العربية مع اثنين من زملائي كتابا عن فلسفة علم الجغرافيا وتاريخ الأفكار. في مقدمة الكتاب يسأل المؤلف الإنجليزي: هل يجب أن نصنف السيرة الذاتية لبعض أشهر الجغرافيين ضمن فئة “للكبار فقط”؟

يذهب المؤلف إلى أن بعضا من أشهر الجغرافيين الذين تعلمنا منهم كانت لهم مواقف سيئة للغاية؛ بعضهم تعاون مع النازية، بعضهم خدم الاستعمار وساهم في استعباد البشر، بعضهم كان انتهازيا يبرر كل شيء لمجده الشخصي.

يطرح المؤلف الإنجليزي اختيارين:

– ممارسة رقابة على السيرة الذاتية والفكرية لأشهر الجغرافيين الأوربيين حتى نضمن وصول المهم من أعمالهم العلمية للطلاب والباحثين الذين هم في سن لا يسمح لهم بقبول السقطات التي وقع فيها “آلهة العلم”، فلو اكتشفوا ذلك لانصرفوا ولم يكملوا.

– كشف كل شيء عن العالِم وسيرته الذاتية: ما قدمه من علم وما وقع فيه من سقطات، وعلينا أن ندرب الطلاب أن نفصل بين هذه وتلك.. وما أصعب المهمة.

وبعد أن ترجمت هذا الفصل من الكتاب فكرت: هل يمكن أن نطبق نفس الفكرة على الجغرافيين العرب والمصريين؟

لقد سمعت مثلا قطوفا من طريقة تعامل أحد أشهر الجغرافيين مع بعض تلاميذه.

يقول لي أستاذ وعميد كلية شهير إنه حين كان طالبا في الدكتوراه ذهب إلى بيت الأستاذ الشهير فقدم له مخطوطة كتاب فنظر إليها الأستاذ بضع دقائق ثم مزقها وألقى بها على درحات السلم وطرد الباحث الشاب.

قلت للسيد العميد: لماذا لا تروي هذه القصة عن الأستاذ الكبير الذي يحب الناس كتبه ولم يلتقوا به من قبل؟

أجابني: التيار شديد والدراويش كثر والجهلاء أكثر.

تكررت هذه الروايات عن أنصاف الآلهة الذين نرسم لهم صورا لامعة.

قبل 17 سنة عشت تجربة ذاتية مع أستاذ ومفكر كبير، قدمت له كتابي الجديد الذي لقي استحسانا من دار النشر. فإذا به بعد أسبوع يلقاني ويشن هجوما ساخرا لاذعا ويتهمني بصفات لا يمكن تخيلها.

قلت له يا أستاذي أنا اتبعت منهجك النقدي وسرت على نفس المدرسة التي أسستها أنت، بل إن العنوان الفرعي للكتاب مستلهم من أحد كتبك.

صمت المفكر الكبير ولم يرد!

شكوت لأحد العارفين ما حصل فقال لي: هذا المفكر الكبير يريد أن يكون وحده في المدرسة….يكون الأستاذ والرائد ولا أحد بعده !”.

ويبدو لي أنه لا يوجد واحد منا منزه عن الأخطاء والسقطات، وإذا وضعت هذه الأخطاء في غير سياقها ربما انتقصت من الصورة التي رسمناها عن أنفسنا.

انتابتني هذه الأفكار وأنا أتصفح هذه الأسبوع 34 كتابا أتاحتها مؤسسة هنداوي للصحفي المصري سلامة موسى، والذي ترك إنتاجه في النصف الأول من القرن العشرين.

يمكن تصنيف الكتب في أربع فئات:

– الحضارة المصرية القديمة ودور مصر التاريخي (5 %)

– كتب في تبسيط العلوم والتحليل النفسي وتطور العلاقات الإنسانية ونصائح للشباب (30 %)

– المرأة والحب والمشكلات الاجتماعية والحياتية (30 %)

– الأدب والفن والصحافة (30 %)

– منوعات (5 %)

النتيجة التي تخرج بها من هذه القراءة أن سلامة موسى صحفي، تعلم في الغرب ونقل من هناك ما لذ وطاب من قطوف الفكر.

متوسط حجم الكتب 120 صفحة لكل كتاب، وهي مقالات نشرت في الصحف في الأًصل، جمعها ورتبها ليصنع من كل مجموعة منها كتابا في باب من أبواب المعرفة.

يكتب سلامة موسى بلغة رشيقة سهلة رائعة، اللغة طيعة في يده.

لا يبدو من أعمال سلامة موسى أنه كان باحثا، بل يبدو بوضوح أنه كان مترجما، يقع في كل كتاب على كتابين أو ثلاثة من اللغة الفرنسية والإنجليزية يصيغ منهما مقالاته البديعة.

وقد يضيف أحيانا تمصيرا على الأفكار لتناسب المكان والزمان في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

يبدو أن هنداوي حجبت المقالات التي فيها جدال وأثارت حفيظة الإسلاميين في عصره. لماذا فعلت هنداوي ذلك.؟

ربما ستتيح المقالات المثيرة للجدل مستقبلا، لكن الآن لدينا سياسة واضحة وهي “للكبار فقط”!

وليس المقصود بالكبار هنا الكبار سنا وبلوغا بل الكبار تسامحا، أي أن المناخ الحالي لا يسمح بعرض تلك الموضوعات المثيرة للجدل التي دارت بسببها معارك فكرية في زمانه.

هل أصابت هنداوي بذلك النشر الذي يمارس مبدأ “للكبار فقط”؟

الموقف الذي يبدو لي الآن – ولأهداف تعليمية بحتة – يقف في صف قرار هنداوي، وأسبابي في ذلك أن الكتب التي دونها سلامة موسى في شتى صنوف المعارف مفيدة للغاية، وهي نموذج نتعلم منه فن كتابة المقال، وصياغة العبارة، وعرض الفكرة، وتعريب الترجمة وما إلى ذلك كثير.

وسأختم بملاحظة أخرى عن الطريقة التي يمكن أن نرفع أسهم أحد الكتاب بانتقاء بعض أفكاره أو نسبب كراهية باختيار أفكار أخرى.

وقع في يدي كتاب ضخم لواحد من أشهر الشعراء المعاصرين، يضم الأعمال الكاملة له.

تصفحت الكتاب على مهل، فاندهشت أن القصائد التي تبهرني لدى الشاعر الكبير لا تمثل سوى 10 % فقط من إجمالي مئات الصفحات في الأعمال الكاملة.

لقد استطاع الإعلام والنقد الانتقائي أن يختار فقط أجمل 10 قصائد ويكررها مع صورة الشاعر. فوقع في نفوس العوام – من أمثالي – أن الرجل عظيم في كل ما يكتب، والحقيقة أنه عظيم في 10 % فقط من قصائد مذهلة، والبقية أعمال أخرى جميلة لكن يمكن أن يكتبها باحثون آخرون ليس لهم هذه الشهرة.

وبالتالي لو تصيدنا خطأ لهذا الكاتب أو ذاك وفتحنا باب الهجوم عليه، وكررنا ذلك بدعاوى الإسلام والعروبة لفاتنا الإنتاج الآخر الذي تركه.

اعتقد أننا في حاجة ماسة إلى النظر إلى الأعمال الكلية لكل المساهمين في الترجمة والتأليف والبحث والكتابة.

قد يكتب الواحد منا مقالا بائسا، أو يشطح في فكرة، أو يتعصب في أمر، لكن ذلك لا يجب أن يعمينا عن الاستفادة من بقية أعماله وإنصافها.

والإنصاف في ظني يكون بخمسة معايير:

▪️ الحكم على المنتج في زمانه وظروفه ومصادره وسياقاته: 1924 غير 2024

▪️ الحكم على مناخ الهجوم والنقد الذي كان أكثر تحررا في بعض فترات العهد الملكي مقارنة بكثير من فترات العهد الجمهوري.

▪️ النظر إلى رسالة الكاتب، فنزعة تغريبيه أو علمانية أو إلحادية لا يجب أن تدمر كل ما قدم من جهود. لأن الإسلام والعروبة لديهما من المتانة والصلابة أقوى بكثير مما نظن.

▪️ أن شهرة عدد من الكتاب الإسلاميين والمنافحين عن العروبة إنما جاءت بفضل هؤلاء التغريبيين الذين أطلقوا الهمم وأثاروا الأفكار وساهموا في تقليب المناخ العام بدلا من حالة الركود والعفن.

▪️ أن قارئ عام 2024 ليس بسيطا مثل قارئ عام 1924، لقد مرت 100 سنة من التعليم والتثقيف، ومن المفترض أن تكون الحصانة الفكرية أقوى والنضج والوعي أشد عودا والمهارات النقدية أكثر براعة.

Please follow and like us:
د. عاطف معتمد
أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب