أقلام حرة

د. عاطف معتمد يكتب: كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم!

(كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم!).. قرأت هذه العبارة أول مرة في عام 2005، حين كنت أرصد معلومات جغرافية عن المذهب الشيعي.

وأصل الحكاية أنني في تلك السنوات كنت أقرأ محاضرات في الجغرافيا في شرق المملكة العربية السعودية، وكان كثير من طلابي من الشيعة.

كنت أعمل في كلية جل طلابها على المذهب السني. وكان بالكلية قسمان فقط يقبل عليهما الشيعة حتى لا يحدث تعارض فقهي مع مقررات ومناهج المذهب السني: وكان قسم الجغرافيا أحدهما.

أمضيت في تلك الكلية 3 سنوات، كان عدد طلابي لا يتجاوز 25 طالبا، تعرفت عليهم عن كثب في وقت حرج للغاية، كان ذلك بعد سقوط بغداد وصعود الشيعة في العراق والخوف من تهديد صعودهم في السعودية والخليج.

توسمت من هؤلاء الطلاب أربعة على درجة ملحوظة من الوعي والنباهة، واستعنت بهم في موضوع لا علاقة له بالمذهب والطائفة والدين.

غرود الرمال والبحيرات القديمة في منطقة «الجافورة»

كنت أكتب بحثا عن غرود الرمال والبحيرات القديمة في منطقة «الجافورة» الحدودية بين السعودية وقطر والإمارات.

احتجت إلى سيارة دفع رباعي فسألت بعض طلابي عمن يأجرني سيارة مضمونة بسعر معقول، ويعرف الطريق إلى قلب الرمال، حتى إذا ما تعثر الـ GPS أو اختلطت الصور الفضائية تمكن من نجدتي.

جاءوا لي بسيارة مجهزة وبسعر معقول، وطلبوا مني أن يرافقوني خلال مدة العمل الميداني حتى يستفيدوا من هذه الرحلة العملية.

 بسيارتين مجهزتين أمضينا نحو أسبوعين، كنت أقارن فيهما المرئيات الفضائية والخرائط بغرود الرمال والسبخات والمستنقعات والعيون على أرض الواقع.

كان الطلاب في غاية من الذوق والأدب والرقي، كنا نسير طيلة اليوم بسيارتين بين الغرود حتى إذا جاءت استراحة الغداء اخترنا مكانا مناسبا ووضعنا طعامنا وشرابنا وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث…ومن بينها تفاصيل المذهب الشيعي.

أدركت أنني أمام فرصة نادرة لن تتكرر، أخذت أسأل وأسمع وأفهم وأنتقد، ثم طلبت منهم كتبا ومراجع، كان بعض هذه المراجع غير مسموح بتداوله آنذاك (قبل عشرين عاما من تاريخ اليوم).

 الطقوس الدينية والاجتماعية

ثم تطورت العلاقة أكثر فطلبت أن أعاين بنفسي الطقوس الدينية والاجتماعية، فسمحوا لي بأن أحضر الطقوس في الحسينيات، وهي فرصة نادرة لم يكن لي أن أفوتها رغم مخاوف المخاطرة والمغامرة (كم كنت شجاعا قبل 20 سنة!)

كانت الحسينية وما يجري فيها نقطة تحول في رأسي عن الموضوع، وضرورة تحويله من مجرد ملاحظات إلى نص بحثي مكتوب.

ثم انتهزت الفرصة أكثر وطلبت أن أزور كبار أئمة الشيعة في الإقليم. إذ لا يمكنني أن آخذ معلوماتي من طلاب أو مواطنين عاديين.

دلني بعض طلابي على الشيخ حسن الصفار في القطيف، فسافرت إليه وأقمت ثلاثة أيام في ضيافته، أحضر الندوات العلنية لمجلس الشيخ المثقف وأدون الأفكار الأساسية عن ثنائية «المذهب والوطن».. وهي الأطروحة الأساسية التي كان يقدمها الشيخ الصفار بعد أن عاد إلى البلاد في مصالحة لكي يعمل من الداخل.

إلا من اغترف منه غرفة بيده

وفي خلال ثلاث سنوات (2003-2006) أقمتها في هذه المنطقة الرائعة من شبه جزيرة العرب وأهلها الكرام – من السنة والشيعة- قررت العودة لجامعة القاهرة.

أنا عادة لا أطيل المقام في مكان، أحب دوما أن آخذ الجرعة التي تكفيني لإكمال الطريق، أتذكر دوما الحكمة التي قالها لي أحد الأساتذة نقلا عن المفكر المصري طارق البشري من أن الحياة أشبه بابتلاء النهر «إلا من اغترف منه غرفة بيده»!

عدت وقد كتبت ثلاثة بحوث عن الجغرافيا الطبيعية لمنطقة الجافورة والعقير والبحيرات القديمة في الصحراء (نشرت كلها في الجمعية الجغرافية السعودية والجمعية الجغرافية الكويتية: أقرب جمعيتين علميتين إلى بيئة المنطقة التي درستها).

ولكني عدت ومعي أوراق ومذكرات وملاحظات تصلح لتدوين بحث ثقافي عن الجغرافيا والمذهب عند الشيعة.

صدر الكتاب بالفعل عن دار نهضة مصر في القاهرة عام 2007، ولم أرغب في إعادة نشره مجددا أو تطويره أو تحديثه، وكان السبب الرئيس أنني انشغلت أكثر بالسفر إلى بلاد أخرى، أو لأنني اكتفيت بتدوين هذه التجربة القصيرة دون خوض أكثر عمقا، أو لأن بعض النقاد المصريين قالوا عن البحث نقدا بعضه أقنعني وبعضه كان مجافيا للموضوعية لأسباب شخصية.

لماذا سمحت لنفسي أن أستعيد تلك الأحدث التي مر عليها 20 عاما؟

كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم!

نعم تذكرت!

كنت قد أعطيت هذا المقال عنوان «كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم».

الحقيقة أن هذه العبارة التي جاءت في أحد مراجع بحثي عن الجغرافيا والثقافة في المذهب الشيعي استحضرها دوما حين أتذكر الحياة الأكاديمية في الجامعة.

إن كثيرا مما نقوله للشباب الأحدث عمرا من قول جميل ومنظم ومرتب وطوباوي يظل دوما كلاما جميلا ما لم يكن مترجما على أرض الواقع إلى فعل.

الطريف أن الشباب الصاعد الذي يسمع كلامنا لا ينتبه إلى أنه “ما أسرع الأيام” وأنه في غمضة عين من الزمن سيكرر نفس التجربة وعليه أن يختار وقد يقع في نفس المشكلة بأن يقول كلاما عظيما بينما الفعل على أرض الواقع يخالف ذلك.

أيها الشباب: دعوني أخبركم أن أفضل دعوة للمبادئ هي الدعوة إليها بالفعل على أرض الواقع…وأرجو أن تسامحونا لأننا قلنا لكم كلاما بألسنتنا لم تصدقه أعمالنا وأفعالنا!

د. عاطف معتمد

أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights