د. عاطف معتمد يكتب: مهرجان الفجر!
تعطلت سيارتنا الوحيدة في الصحراء فأمضينا ليلتنا ملتحفين بالسماء في صحراء بير نخيلة. تقع بير نخيلة في منتصف المسافة بين واحة باريس غربا وبلاد النوبة ومفيض توشكى شرقا.
كنت في بير نخيلة مع أربعة رفاق (زميل في الجغرافيا، وسائق، ودليل صحراوي، وشاب مغامر من أهل الواحت الخارجة أراد رفقتنا).
كانت ليلة باردة ريحها كالسياط على الظهور، طفقنا نشعل نارا ونجمع لها ما وجدنا من حطام شجيرات باسلة أبت الموت وعاشت على الكفاف، ونضيف إليها ما استطعنا نزعه من جريد نخيل طمرته غرود رملية غاشمة اغتالت واحة قديمة.
في هذا الريح الشديد والبرد القارس تقترب في الليل من النار حتى تكاد تحتضنها، تمسك النار حرفيا بيديك طلبا للدفء، تعرف هنا للمرة الأولى لماذا قدس الإنسان النار واتخذها إلها.
قداسة النار في الصحراء لم تكن أولى العلامات في هذه الليلة، فقبل ذلك وحين غابت الشمش بنحو ساعة أو أكثر قليلا صعد القمر متجليا في السماء قادما من الشرق، أخذ قوسا تدريجيا بشكل هندسي حاذق وبان واختفى عدة مرات خلف أشجار نخيل الدوم التي تقف وحيدة هناك في صحراء «بير نخيلة».
هذه واحدة من المرات القليلة التي يصادف أن أبيت في ليلة البدر، كان القمر كأنه نجم ساطع ضخم اقترب منا ليمنحنا الضوء والأنس. وحين تربع في السماء جاءت إليه نجمة عالية من بعيدة وقفت بجواره فأفلتت مني عبارة سمعها الجميع: «الله».
في بير نخيلة اكتشفت المقصود بـ«مهرجان الفجر».
قرأت هذا التعبير مرة واحدة في رواية «العائش في الحقيقة» لنجيب محفوظ.
جاءت العبارة حين كان أخناتون متبتلا في تأملاته الصباحية بعد أن اهتدى إلى إله واحد عازفا عن عبادة آمون وبقية الآلهة.
لم يكشف لنا محفوظ مقصوده بتعبير «مهرجان الفجر»، راهن محفوظ على أن المصري الذي ارتبط بأرضه وبيئته سيفهم المقصود دون ركاكة التبيان والتوضيح.
من خلال مراقبة هذه الساعة في البيئتين النهرية والصحراوية نكتشف فارقا جوهريا.
– في البيئة النهرية تبدأ مع إشراقة الفجر أصوات الطيور تعزف مجتمعة مقطوعة موسيقية صاخبة إن لم تنتبه لأسرارها ستظنها شجارا وعراكا، وإن تأملت فيها كل صباح ستجدها في الحقيقة فرحة بميلاد نهار جديد. لا تعزف الطيور ألحانها متصلة بل توزعها على ثلاث أو أربع فقرات في كل مرة بحيوية ونشاط متباين في الدرجات الصوتية، آخر فقرة في مهرجان موسيقى الطيور ستكون مع الضوء الذي تسلل معلنا ميلاد النهار.
– في البيئة الصحراوية يحل محل الطيور حفيف صوت الرياح ونسائم النهار الأول وربما إن أرهفت الإنصات وصل إلى مسامعك تسللات زاحفة أو قافزة من هذه الحيوانات البرية أو تلك.
البطل في الصحراء ليس الصوت كما في البيئة النهرية التي تعزف فيها الطيور أنغامها على انسياب مياه النهر الهادئ بل البطولة هنا للضوء. يتألف مهرجان الفجر الصحراوي من ابتهالات ضوئية تعزف أصواتا من الصمت تتسلل بهدوء وحياء ودون مفاجآت من عتمة الليل إلى انشقاق الضوء الخافت، ثم تتلون الصحراء بألوان متعددة لا تراها بهذه المقطوعة المتماوجة إلا مع هذا المهرجان الضوئي.
في كل من مهرجان الفجر النهري والصحراوي تخبرنا المقطوعتان الصوتية والبصرية عن ميلاد يوم جديد.. وفي الميلاد حياة…وفي الحياة أمل.