مقالات

د. عبد الآخر حماد يكتب: توفيق الحكيم مدافعاً عن النبي الكريم

يسرني كثيراً أن أرى مِن أهل الإسلام حباً في دينهم ورغبة في الدفاع عنه، ويزيد في سروري أن أرى ذلك الدفاع صادراً عمن لا يُعهد عنه التزام شديد بأحكام الدين، فإن ذلك يدل على أنه لا تزال في الأمة بقية من خير، وأن قلوب الكثيرين من المسلمين لا تزال تحمل حباً لهذا الدين وغيرة عليه،حتى وإن ابتعدوا قليلاً أو كثيراً عن أحكامه.

وأذكر أني -حين كنت أقيم ببلاد الغرب- سألت أحد المسلمين الألمان عن سبب إسلامه،فذكر أنه كان ذات يومٍ مع صديقٍ له تونسي فيما يسمى بالديسكو،وحدث أن تفوه بعض المتواجدين في ذلك المكان بكلمات فيها سب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا بصديقه التونسي يثور ثورة عارمة، ويقوم بضرب ذلك الشخص بكل ما لديه من قوة،متوعداً إياه بأنه إن عاد مرة أخرى لسب النبي صلى الله عليه وسلم فستكون حياته هي الثمن.

يقول ذلك المسلم الألماني: إن أشد ما أثار عجبي واستغرابي أن ذلك الصديق التونسي لم يكن أصلاً ممن يهتمون بشعائر دينهم، بل كان من رواد المراقص والحانات،لكنه انتفض انتفاضة الأسد الهصور حين سمع من يتنقص من نبيه، فدفعني ذلك إلى البحث والقراءة عن هذا الدين العجيب،ففتح الله علي أبواب فضله ودخلت في دين الإسلام، ثم قال ذلك الأخ الألماني في حزن: إن أكثر ما يحز في نفسي أن صديقي الذي كان سبباً في إسلامي لا يزال إلى الآن يتردد على الديسكو،وأنا أحاول أن أمنعه منه. قلت له: لعل الله تعالى يغفر له بدفاعه عن نبيه،ولكونه كان سببًا في إسلامك ودخولك في الدين الحق.

تذكرت هذه القصة،وأنا أقلب في عدد قديم من أعداد مجلة الرسالة التي كان يصدرها الأديب أحمد حسن الزيات رحمه الله، وهو عدد الاثنين 12 محرم 1354هـ الموافق 15 أبريل 1935م،وكان مما درج عليه الأستاذ الزيات أنه كان في مطلع كل عام هجري يستكتب مجموعة من كبار الكتاب والأدباء ليتحدثوا عن الهجرة وما يتعلق بها وبالإسلام بعامة. وكان أولئك الكتاب يتبارون في تقديم ما لديهم مما يتعلق بما ذكرناه، فكان مما طالعته في ذلك العدد مقال للأستاذ توفيق الحكيم بعنوان: (الدفاع عن الإسلام)، وفي مستهل تلك المقالة يذكر الأستاذ الحكيم أنه قرأ قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي فولتير عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعنوان (محمد)، ويعلق على تلك الرواية قائلاً: (فخجلت أن يكون كاتبها معدوداً من أصحاب الفكر الحر فقد سب فيها النبي صلى الله عليه وسلم سباً قبيحاً عجبت له، لكن عجبي لم يطل فقد رأيته يهديها إلى البابا بنوا الرابع عشر بهذه العبارات: فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجاباً بالفضيلة، إذا تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية، وإلى مَن غيرِ وكيلِ ربِ السلام والحقيقة أستطيع أن أتوجه بنقدي قسوة نبي كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لي قداستك في أن أضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه وأن أجرأ على سؤالك الحماية والبركة، وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القديستين).

ثم يذكر توفيق الحكيم رحمه الله أنه قرأ بعد ذلك ما كتبه المفكر جان جاك روسو من نقدٍ لهذه القصة التمثيلية لعله يجد فيها ما يرد الحق إلى نصابه،فلم يرَ هذا المفكر الحر أيضاً يدفع عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ألصق به، وكأن ما قيل عن النبي لا غبار عليه ولا حرج فيه، ثم يقول: (إني قرأت لفولتير كتباً أخرى كانت تكشف عن آراء حرة حقاً في مسائل الأديان وتنم عن روح واسعة الآفاق تكره التعصب الذميم، فما باله عندما عرض لذكر محمد والإسلام كتب شيئًا هو التعصب بعينه، تعصبٌ لدينه، ذهب فيه إلى حد السجود وتقبيل الأقدام، لا لرب العزة والخلق، بل لبشر هو رئيس الكنيسة التي ما أرى أن فولتير كان ذات يوم من خدّامها المخلصين… منذ ذلك الحين وفولتير عندى مُتهم، ولن أبرئه أبدًا، ولن أعده أبدًا من بين أولئك العظام الذين عاشوا بالفكر وحده وللفكر. وأحسب أن التاريخ العادل سوف يحكم عليه هذا الحكم، فينتقم للحق بما افتراه على نبي كريم ظلمًا وزورًا)… إلخ المقال المشار إليه والذي دعا فيه أهل الأدب والفكر من المسلمين أن يهبوا للدفاع عن نبيهم ودينهم في وجه هذا الهراء الذي يقوله فولتير وأمثاله، ثم ذكر أمثلة لكتابات يرى أن فيها دفاعاً عن الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم.

إن الأستاذ الحكيم لم يصنف يوماً على أنه كاتب أو مفكر إسلامي، وإنما هو كاتب وأديب له ما له وعليه ما عليه، حتى إنه في أخريات حياته أثار جدلاً كبيراً حين كتب مقالات في الأهرام بعنوان: (حديث مع الله)، يتخيل فيها أنه يكلم الله ويكلمه الله، فثار عليه الثائرون،ورد عليه كثير من أهل العلم. لكن ذلك لا يمنعنا من أن نذكر له موقفه في الدفاع عن الإسلام ونبيه،وتنبيه قرائه إلى ما تنطوي عليه كتابات كثير من المفكرين الغربيين من ظلم بل من حقد على الإسلام وأهله. 

إن علينا -نحن المهتمين بأمر الدعوة- أن نرحب بكل كلمة حق تقال دفاعاً عن الدين وشريعته حتى لو صدرت ممن نخالفهم في الرأي،أو من نرى منهم بعداً عن الدين وأحكامه؛ فإن الشخص قد يكون مقصراً في الالتزام بالدين وأحكامه، ومع ذلك ينطوي قلبه على قدر ليس بالقليل من الحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري في صحيحه (6780) قصة الرجل الذي كان يشرب الخمر، وكان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجلده، وأنه قد جلده يوماً،فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثرَ ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله).

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإني أذكر أني قد استمعت وأنا صغير إلى حوار إذاعي مع المطرب عبد الحليم حافظ، وفي هذا الحوار كان المحاور يذكر لعبد الحليم حافظ اسم الأغنية من أغانيه ويسأله: من أحق من ينطبق عليه هذا الاسم؟ فيجيبه، إلى أن وصل إلى أغنية (كامل الأوصاف)، فلما سأله المذيع عمن يستحق هذا الوصف قال بغير تردد: طبعاً ليس هناك أحد يستحق هذا الوصف إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، قلت: لعل الله يغفر له ذنوبه أو بعض ذنوبه، بهذا الذي قاله في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أ.د. عبد الآخر حماد

6/ 3/ 1445هـ- 21/ 9/ 2023م

د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى